لماذا يجب أن نسوِّق أفكارنا؟


للإجابة عن هذا السؤال سوف نعرض مجموعة من النقاط؛ كالآتي:

صاحب المبادئ لا يهدئ حتى يسوق أفكاره.

يقول الإمام الطبري في تفسير قوله -تعالى-: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون}[الزُّخرُف:32]، يقول: «ليستسخر هذا في خدمته إياه، وفي عود هذا على هذا بما في يديه من فضل، يقول : جعل -تعالى- ذكر (بعضهم بعضًا) سببًا في المعاش في الدنيا»، تفسير القرطبي (11/182).

فكان لزامًا عليه أن يُقْنِعَ من حوله بتحقيق رغباته، ويحفزهم لتنفيذ أفكاره وطموحاته، ويقودهم إلى تنفيذ مشروعه، ولئن كان ذلك لكل الناس، فهو لأصحاب المبادئ ألزم، ولطريقتهم أقرب، فلدى أصحاب المبادئ والأفكار القابلية لكي يموتوا وتحيا أفكارهم ومبادئهم، فمبادئهم التي يحيون من أجلها أغلى وأثمن في نفوسهم من حياتهم، وهم على استعداد تام لبذل الغالي والنفيس من أجل تسويقها ونشرها بين الناس.

الفكر محرك الفعل الأصيل، وتغيره يعني تغيير السلوك والشعور .

ويختلفُ الناس اختلافًا شاسعًا في تقدير أهمية الأفكار، وإن كانوا يُجمعون على أن الفكر مُحرِّك الفعل، سواءً كان ذلك الفعل سلوكًا، أو كان شعورًا؛ لذا فالفكر هو المحرِّك الرئيس لكثير من تصرفاتنا ومشاعرنا؛ مما يجعلنا على يقين تام بأنه لا يمكن أن ننجز أي عمل إنجازًا جيدًا ومتقنًا على أي صعيدٍ كان ما لم نُحسِّن ونطوِّر من عملية تسويق أفكارنا، ولذا قيل قديمًا: «أعطني فكرة أعطيك فعلًا، أعطني فعلًا أعطيك عادة، أعطني عادةً أعطيك شخصيتك وحياتك».

وكما يقول ابن قيم الجوزية -رحمه الله-: «فالقلب لا يخلو قط من الفكر، إما في واجب آخرته ومصالحها، وإما في مصالح دنياه ومعاشه، وإما في الوساوس والأماني الباطلة، والمقدرات المفروضة.

وقد تقدم أن النفس مثلها كمثل رحى، تدور بما يلقى فيها، فإن ألقيت فيها حبًّا دارت به، وإن ألقيت فيها زجاجًا وحصى وبعرًا دارت به»، ابن قيم الجوزية، الفوائد (ص 176 - 177).

المدرسون والمربون: نجاحهم بقدرتهم على نقل الأفكار

كل الناس يحتاجون إلى تسويق الأفكار بمختلف تخصصاتهم ومكانتهم، فالدعاة، والمربون، والمدرسون، والموجهون، والمصلحون، والساسة،... وغيرهم، يحتاجون إلى أن يسوِّقوا أفكارهم ومنتجاتهم، بل لا معنى لنجاحهم ولا سبيل له ما لم يسوقوا من أفكارهم وينقلوها بطريقة مناسبة وجيدة، وبقدر كفاءتهم وطاقتهم وقدراتهم في هذا المضمار يكون نجاحهم وتميزهم في مهمتهم وأعمالهم.

وسيبقى الدعاة والمصلحون والمربون أصفارًا لا تنطق ما لم تكن لديهم هذه القدرة التي تجعل الأصفار ذات قيمة، وتجعل الأفكار ذات معنى، وتحقق لهم أهدافهم، وتنفذ لهم برامجهم ومخططاتهم.

أصحاب الأعمال لا ينجحون ما لم يسوقوا أفكارهم

لا تُحلُّ الأزمات والمشكلات الكبرى والمعقدة إلا بمبادراتٍ فكرية تُعمَّم وتُسوَّق؛ ليتحرك لها الناس بمختلف فئاتهم وأشكالهم.

هذه الأفكار يجب أن تكون تفكيرًا خارج إطار المشكلة، وتستوعب جميع محاورها، ليس هذا فحسب، بل هذه المبادرة يجب أن نجد لها برنامجًا تسويقيًّا، وإلا؛ فستبقى أفكارًا ميتة لا قيمة لها ولا وزن، ولن ينفخ فيها الروح إلا تسويقها، وإلا فستبقى نداءات صامته مبهمة لا يسمعها ولا يفهمها ويوصلها للناس إلا تسويقها.

الساسة نجاحهم بقدرتهم على صناعة العقول وقيادتها

وفي عالم السياسة تكون النجاحات متعلقة بقدرة السياسي الفطن على صناعة العقول وقيادتها وبرمجتها، وبقدرته على تسويق أفكاره، بحيث يتبناها الناس، ويقتنعون بها، فهل يعقل أن السياسي سينفذ بنفسه كل ما يريد؟!

ومعلوم أن سياسة الناس وتحريكهم وتحفيزهم تحتاج إلى قدرة عالية في تصنيع الأفكار وتسويقها ونشرها.. لنجد أنفسنا مرةً أخرى أمام تسويق الأفكار.

وفي عالم الإدارة والأعمال يستطيع المدير أن يحقق نجاحه إذا كان لديه القدرة على إدارة الناس، هذه القدرة التي لا تتحقق إلا بمقدار ما لديه من مهارة في تسويق أفكاره وطرحها عليهم، وإقناعهم بها، وتحفيزهم وتشجيعهم على تنفيذها، وقدرته على نشر ثقافة مناسبة للمنشئة والمنظمة، وهذا يعني لنا: قدرات متميزة في تسويق الأفكار بآليات مختلفة.

تسويق الفكر يعني تغيرات عميقة في الآخرين

واعلم أنه لا يمكنك أن تغير في الناس شيئًا فضلًا عن أن تغير الحياة كلها بدون تغيير في الفكر؛ لأنه يؤدي لتغييرات عميقة في الآخرين، تظهر نتائجها لنا جلية وواضحة ولو بعد حين، فالإرادة الحازمة مع القدرة تولد لنا الفعل ولا شك، والتغييرات العميقة تغييرات تتجاوز مجرد السلوك الظاهري إلى المحركات والدوافع والأفكار؛ فمن أراد أن يغير في الناس شيئًا؛ فأكبر بوابة له: بوابة تسويق الأفكار، كما أن الناس بعد ذلك يستجيبون لأفكارهم، وليس بالضرورة للواقع، بل هم يرون بعد ذلك الواقع كما يتناسب مع أفكارهم، فتسويق الأفكار يعتبر تغيير عميق للناس وللأمم ومن ثمَّ للواقع بأسره، والأفكار العظيمة الشامخة إذا سُوِّقت بطريقةٍ سليمة ومناسبة تقدِّم تغييرات عظيمة في الحياة.

تسويقنا لأفكارنا هو الذي يعطي أفكارنا قيمتها لدى الآخرين

وتبقى أفكارنا لا قيمة لها ولا وزن ما دامت حبيسةً في نفوسنا، لا تحرِّك أفعالنا ولا مشاعرنا، وعندما نتحرك بأفكارنا تَظهرُ لنا قيمتها، ولكنَّها تبقى لا تحرك أفعال الناس، ولا تستجيش مشاعرهم حتى نُسوِّقها بينهم، ونبينها لهم، ونعرضها بين أيديهم، فكم من أفكارٍ عظيمة ورائعة وجميلة ماتت وذبلت وانتهت بسبب أن أصحابها لم يتمكنوا من إظهارها، وتعليمها، وبيانها، ونشرها، وتسويقها بين الناس؟

وكم من أفكارٍ بسيطة وسهلة كانت ذات أثرٍ كبير في تغيير الحياة والواقع؛ لأن أصحابها أحسنوا تسويقها ونشرها، وإظهارها، وتبيينها للناس.

وما مثل ذلك إلا كمثل من يملك بضاعة نفيسة لا يعرفُ الناسُ قيمتها وجودتها، ومن يملك بضاعة يطلبها كثير من الناس من كل حدبٍ وصوب، وإن كانت أقل جودةً وتصنيعًا من تلك؛ فلا تظهر قيمة الشيء إلا بطلب الناس له، ولا يطلب الناس شيئًا لم تبذل له الجهود التسويقية المناسبة.

تسويق الأفكار يشكل حقيقة الدعوات والصراعات والحياة

عند النظر في الموضوع بدقة، والتعمق فيه، والتأمل في أبعاده وآثاره نجد أنه يشكل حقيقة الدعوات كلها، سواءًً كانت حق أو باطل، وحقيقة التجمعات كلها الحزبية منها والخدمية، فكل الدعوات إنما جاءت لنشر أفكارها وتسويقها، وما الأديان والتوجهات الفكرية، والتجمعات الحزبية، والجماعات الخيرية، والتكتلات السياسية.. وغير ذلك إلا أمثلة لتلك الأفكار التي بُذل فيها الجهد والوقت والمال من أجل تسويقها وبثِّها ونشرها.

بل إن هذه الصراعات التي نشاهدها في كل مكان هنا وهناك، في الشرق أو في الغرب، سواءً كانت سياسية، أو عسكرية، أو اقتصادية، ما هي في حقيقتها إلا صراعات فكرية، خفية تارة، وعلنية تارة أخرى.

إن هذه الصراعات نشأت عن تصادم بين مشروعين كل منهما يحاول تسويق أفكاره.

فالحياة كلها بدعواتها وتكتلاتها وصراعاتها ميدانٌ واسع لتسويق الأفكار، والعلاقة بين الحياة وتسويق الأفكار علاقة متبادلة، فالأفكار تصوغ الحياة وتصنعها، والحياة وسننها تصنع أفكارنا، وتحدد آليات تسويقنا لها، ويبقى أن حقيقة الحياة إنما تنال بمقدار الجهد والتعب الذي نبذله من أجل نشر أفكارنا ومبادئنا، ولذا يعيش المسلم دائمًا وشعاره: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين}[الأنعام:162].

6289


كلمات دليلية: