أنماط التسويق السياسي
صناعة الزعماء وتسويقهم:
السياسة.. حرب الأفكار من أجل البقاء!
لا يمكن فهم السياسة بمعزل عن فهم تسويق الأفكار والاتصال الجماهيري، كما أنه لا يمكن لنا -أيضًا- أن نفهم تسويق الأفكار العام والاتصال الجماهيري بمعزل عن السياسة؛ فالسياسة أساسًا تقوم على التسويق الفكري في كل جزئية من جزئياتها، ولا تنفك عنه البتة؛ ولذا يحرص السياسيون دائمًا على السيطرة على وسائل التأثير التي هي نفسها وسائل التسويق، وبمقدار قدرة أي حكومة أو دولة على تسويق أفكارها بالبراعة اللازمة، بمقدار بقائها وانتشارها وتحقيقها لأهدافها الاستراتيجية، وبمقدار فشل وعجز أي حكومة عن تسويق أفكارها بمقدار سقوطها وانحدارها، وبالمثل؛ فإن بقاء الشخصية السياسية على المسرح السياسي، مرهون بمقدار براعته وتمكنه من تسويق أفكاره وتحكمه في عقول الجماهير وتوجهيها وفق إرادته، وأما حجب الثقة عنه وعزله؛ فيكون بمقدار عدم قدرته على تسويق أفكاره بشكلٍ جيد.
وتكون البداية دومًا بصنع الشخصية، التي ستمثل الوعاء الناقل لتلك الأفكار، والتي سيقع عليها عبء ترويجها بين الجمهور المستهدف، لتحقيق أغراض الجهة التي تتبعها تلك الشخصية، أو تحقيق أهدافها هي، كما سنوضح بعد قليل.
مهنة صناعة الزعماء.. وتسويقهم!
لا يجري الأمر بهذا الشكل أبدًا؛ يترشح الزعيم لمنصب سياسي ما، فينتخبه ناخبيه لعدة عوامل، من بينها: اقتناعهم ببرنامجه الإصلاحي، وانتمائه الأيدلوجي أو السياسي، بل هناك دومًا ما هو أهم وهو: صورته في أذهان جماهيره، سمته، طريقة كلامه، مشيته، مراقبة ملامح وجهه حين يكتسي بالصرامة والجدية، أو عندما يمزح.
انجذاب الجماهير لشخصية الزعيم يفوق في الأهمية اقتناعهم ببرنامجه الإصلاحي، وإعجابهم بشخصيته يلفتهم في أحيان كثيرة عن اتجاهه الفكري أو السياسي؛ إذ ربما يأتي كل ذلك في مرحلة لاحقة، لكن البداية دومًا تكون بانجذابهم لشخص الزعيم نفسه، وما يُعرف باسم (الكاريزما) التي تتطلب الكثير من المواصفات والمهارات كما ذكرنا.
صناعة الزعماء وتسويق صورتهم لدى الشعوب في الغرب تقوم عليها جهات متخصصة في رسم الصورة، كنشاط من أنشطة العلاقات العامة والدعاية السياسية، وهو أسلوب متعارف عليه هناك، يُطلق على ممارسوه اسم: (صانعي النجوم)، أو: (خبراء الصورة الذهنية)؛ إذ أصبحت صناعة الرؤساء في الغرب مهنة متقدمة لها أصولها وقواعدها، وبرامجها، ومخططوها، ولها محترفوها وهواتها أو عشاقها -أيضًا-، وهم من يقومون بصناعة صور المرشحين للرئاسة، ثم يستمرون في رسم صور الرؤساء أنفسهم طوال فترة حكمهم.
وغالبًا ما يخطط ويحدد صُنـَّاع الصورة للرؤساء الغربيين كل خطوة، وكل لفتة أو إيماءة يقوم بها الرئيس، أو حتى المقربون منه، خاصة أفراد أسرته، وتحديدًا زوجته؛ لما للمرأة من دور هام في هذه الصناعة.
وبالطبع فهناك بون شاسع بين ما شاع في الغرب، وبين الأساليب السائدة لصناعة الصورة الذهنية للرؤساء العرب التي تتحدد ملامحها بأساليب تقليدية، وأحيانًا تتحدد عفوًا وبتلقائية، أو بمصادفات تاريخية -نصرًا كانت أو هزيمة-، وإن كان هناك من تنبه مؤخرًا لضرورة وجود فريق عمل حول الرؤساء العرب يقومون بالمهمة نفسها.. ولكن يفترض أن يقوموا بهذه المهمة وفقًا لمقاييس وقيم وقواعد مختلفة تمامًا.
تاريخ صناعة الزعماء وتسويقهم:
تمت أول عملية تسويق للشخصية منذ بدء الخليقة عندما خدع الشيطان حواء -بحسب الأسطورة- ومن ثم باعت حواء بدورها التفاحة لآدم مقابل ثمن وهو الخلود -حسبما أوهمها الشيطان-، وهنا نجد أن عملية التسويق تمت مسبقًا لشخصية حواء لدى آدم الذي أصبح يثق بها تمامًا كوحيدة معه في هذا المكان، وبالتالي كان تناوله التفاحة وغفلته عن الهدف من وراءها.
بالمثل، فإن أمريكا -الشيطان الأكبر حسب الوصف الأكثر إثارة للذهنية العربية- تستطيع، بمنظومتها الإعلامية الهائلة، وأجهزتها المتفوقة، تسويق زعيم ما، تصنعه على عينها، إلى شعوبنا العربية لتحقيق أغراضها، مثلما فعل الشيطان في الزمن القديم، وبذلك نجد أن تسويق الشخصية أمر هام وضروري قبل تسويق الأفكار التي تحملها تلك الشخصية.
وقد اختصت الحركة الماسونية منذ حوالي قرنين من الزمن بصناعة الزعماء وتلميعهم لخدمة أغراضها.
ببساطة: رأت الحركة أن أفضل ضمان لأن تكون سياسة الدولة -أي دولة- لصالح اليهود أو -على أقل تقدير- غير مناوئة لهم، هو أن تأتي بالزعماء المصنوعين من قِبلها، إنهم يبدون زعماء حقيقيين، لكنهم في الحقيقة لا يملكون من الأمر شيئًا، ويلتزمون بما تلزمهم به الحركة الماسونية.
وفي هذا السياق ركزت الحركة الماسونية على أصحاب النفوذ في المجتمعات من سياسيين، وأثرياء، وكتاب، ومفكرين، ورجال دين؛ لكي تختار من بينهم مادتها الخام للصناعة، وقد نجحت في ذلك إلى حد كبير.
تطور صناعة وتسويق الزعماء في العالم:
كان استخدام التلفزيون في الحملة الرئاسية الأمريكية عام 1960 البداية الحقيقية لتلك الصناعة الهائلة التأثير، القادرة على تغيير العالم، صناعة الرؤساء والقادة والسياسات؛ حيث باتت منذ ذلك الوقت من أكثر الصناعات رواجًا وتأثيرًا في الولايات المتحدة، الدولة الأقوى والأكثر تأثيرًا في العالم، ومنها انتقلت إلى أوروبا ومختلف أنحاء العالم، وأصبحت صناعة يمكن تصديرها إلى أي مكان في العالم، وأصبحت تحقق نتائج فعلية على صعيد تكريس الوقائع وإظهارها أو حتى تغييرها وتغيير اتجاهات الرأي العام معها.
وقد انضم إلى هذه الصناعة الكثيرون، بدءًا من أطقم التلفزيونات وخبراء استطلاعات الرأي، وعلماء النفس والاجتماع إلى مصممو الأزياء ومصففو الشعر، إضافة طبعًا إلى علماء السياسة والاقتصاد، وأصبح الرئيس -أي: المنصب الأول في أي بلد- سلعةً كأي سلعة تنتج أو يُعاد إنتاجها ويتم الترويج لها، وكذلك بقية الرموز والزعماء، كما سنوضح.
التلفزيون.. مسوِّق الرؤساء:
لعب التلفزيون، بطبيعة تركيبته سريعة الانتشار والتأثير، وبالقوى المالية والصناعية والسياسية التي تقف وراءه، دورًا هائلًا في تكوين الرأي العام والتأثير عليه، فالتلفزيون كوسيلة إعلامية شديدة الانتشار والتوغل يسهِّل تنفيذ مخططات الخداع والتضليل وتزييف الوعي للرأي العام.
وبالنسبة للعالم العربي، فإن تأثير التلفزيون على المجتمعات العربية بدأ مع حرب الخليج الأولى في مطلع التسعينيات، حيث تزامن ذلك مع بداية دخول محطة الـ (سي. إن. إن)، ونقلها لأحداث الحرب، وبداية استخدام الولايات المتحدة لوسائل الإعلام، وتحديدًا فضائيتها الإخبارية الأشهر، كجهاز دعائي يوجه الأكاذيب إلى المجتمعات العربية بالذات، ويؤثر في قرار السياسيين العرب ورؤساء الدول العربية لوضعهم جميعًا في الخانة الأميركية، ولجرّهم إلى الحرب في المنطقة، وأيضًا لبث الهزيمة النفسية داخل مجتمعاتنا.
رئيس دولة.. بمهارات ممثل!
خلال إعداد الرئيس الأمريكي (جون كنيدي) وتأهيله ليتولى زمام الحكم في أمريكا، كان من أهم المهارات التي لُقِّن إياها، والتي بدت كأنها دروس لممثل سينمائي أو تلفزيوني: حب الكاميرا.. ولتوضيح هذا الأمر: كان قد صدر كتاب في فرنسا بعنوان: (المجتمع المسرح)، تحدث عن أن السياسة ذاتها أصبحت أشبه بالمسرح، وأن شكل الرسالة السياسية وكيفية خروجها وعرضها أصبح أهم من مضمونها؛ حيث أصبح الديكور والصوت والكاميرا وغيرها من أدوات التقنية الإعلامية أهم من الرسالة التي يقولها السياسي أو البرنامج الإصلاحي الذي يعرضه المرشح.
آليات صناعة وتسويق الزعماء:
تخضع عملية (صناعة الزعيم) لاعتبارات عدة، زمانية ومكانية؛ من أهمها:
1) دراسة الشعوب المراد تسويق الزعيم إليها، من خلال تحديد النمط الثقافي، والنفسي، والإرث التاريخي لهذه الشعوب؛ بناءً على ذلك تتحد طبيعة اختيار الزعيم الملائم لنمط هذه البيئة وهويتها، فهناك شعوب بسبب طبيعتها الثقافية وإرثها الحضاري، لا تقبل في الحاكم إلا أن يكون رمزًا للقوة، وأن تكون القوة إحدى مقوماته البدنية والنفسية، وهناك من الشعوب من لا تقبل أن يكون حاكمها غير متزوج أو غير ملتزم بالأعراف والتقاليد الاجتماعية لهذه الشعوب...
2) كذلك دراسة طبيعة المرحلة السياسية التي يمر بها المجتمع، والأخذ في الحسبان التقلبات الجارية التي تتحكم في مواصفات اختيار الزعيم أو القائد الذي سيتم صناعته وتلميعه، فعلى سبيل المثال لم يكن يصلح في مرحلة تحرير فرنسا من الاحتلال الألماني غير (شارل ديجول) الزعيم العسكري؛ فهناك علاقة وثيقة بين المرحلة السياسية ونمط شخصية الزعيم، فلا يصلح رئيس مدني لمجتمع يمر بمرحلة حرب، كذلك لا يصلح زعيم عسكري في مجتمع مدني مستقر؛ لذلك يسعى الزعيم الذي ظهر في فترة الحرب لخلع زيه العسكري بعد انتهائها وتحوله للنمط المدني.
3) كما يخضع الزعيم -ما بعد دراسة هذين العنصرين- إلى إعداد وتأهيل ذاتي، كالذي يخضع له الممثل، من تعلم بعض اللغات، إلى طريقة الحديث، والمظهر، وطريقة وتوقيت ظهوره إلى الرأي العام، وبقية تلك المهارات.
نماذج من صناعة الزعماء وتسويقهم:
يملك الزعيم، أو القائد، أو الحاكم الإمكانيات المادية، ويسيطر على المؤسسات ولديه الطواقم الفنية والعلمية والإدارية المختلفة، ولديه القدرة على اتخاذ القرار والتنفيذ.
فإذا رأت دولة -أو جهة ما- أن لها مصلحة في دولة أخرى، أو بقعة جغرافية، أو شعب آخر؛ فإنه من الممكن لها أن تتطلع نحو وجود زعيم يتجاوب معها نحو تلبية مصالحها.
دول كثيرة لا ترغب بترك الأمور تبعًا للحظ، فتعمل على اتباع سياسات تصل بعميل لها إلى الزعامة، أو إلى سدة الحكم، عندها تضمن هذه الدولة أن مصالحها تتحقق من خلال سياسات تشارك مباشرة هي في صنعها.
ونستعرض فيما يلي، بعض نماذج صناعة الزعماء وتسويقهم لدى الشعوب، للوصول لأغراض بعينها:
أسطورة الزعيم (غاندي).. صناعة الاحتلال البريطاني:
كان الزعيم الهندي (غاندي) من الزعماء القلائل الذين نالوا شهرة واسعة في هذا العصر، وحيثما ذكر نجد الثناء العطر يرافق سيرته، وأنه بطل المقاومة السلمية التي يحرص الغرب على تصديرها إلى العالم الإسلامي، وتذكيرهم بها في كل مناسبة.. فيا ترى ما سر هذا الرجل الذي ظهر فجأة على المسرح السياسي في الديار الهندية؟!
عندما توفي السلطان العثماني محمد الفاتح -رحمه الله- (886هـ) وهو يحاصر روما دعا بابا الفاتيكان في روما النصارى في أوروبا إلى الصلاة؛ شكرًا لله ابتهاجًا بوفاة محمد الفاتح!.
هذه الحالة من الرعب والفزع لم تكن لتغيب عن أوروبا الصليبية في نظرتها إلى العالم الإسلامي، لذا فقد كان أخطر عمل قامت به بريطانيا هو إلغاء الخلافة الإسلامية، وإسقاط الدولة العثمانية، وتفتيت العالمين العربي والإسلامي، حتى لا تضطر أوربا لإقامة صلاة الشكر مرة أخرى!.
لقد أدى قيام بريطانيا الصليبية بإلغاء الخلافة الإسلامية إلى إذكاء روح المقاومة الإسلامية في الهند، ومن ذلك تأسيس المسلمين جمعية إنقاذ الخلافة في عام (1920م)، وقاموا بجمع (سبعة عشر مليون روبية) لأجل هذا الغرض.
وهنا طفا على السطح فجأة شخص هندوسي اسمه: (غاندي)، وقام بالتقرب إلى جمعية إنقاذ الخلافة، وطرح عليهم فكرة التعاون مع حزب المؤتمر الوطني الهندي، فرحب المسلمون بذلك، ولما عقد أول اجتماع بين الطرفين، طرح المسلمون شعار استقلال الهند عن بريطانيا، بدلًا عن فكرة إصلاح حالة الهند التي كانت شعار المؤتمر الوطني، لكن (غاندي) عارض هذا المقترح وثبط الهمم.
وفي عام (1921م) عقد الطرفان اجتماعًا مهمًّا تمكن فيه المسلمون من فرض شعار الاستقلال عن بريطانيا، وقاموا بتشكيل حكومة وطنية لإدارة البلاد.
هذا التطور الخطير لم تكن بريطانيا لتسمح له بإفساد فرحتها بإسقاط الدولة العثمانية، وتقسيم العالم الإسلامي، لذا فقد قام (ريدينج) الحاكم البريطاني للهند بالاجتماع بغاندي، وقال له: «إن مصدر الحركة الاستقلالية في الهند هم المسلمون، وأهدافها بأيدي زعمائهم، ولو أجبنا مطالبكم، وسلمنا لكم مقاليد الحكم، صارت البلاد للمسلمين، وإن الطريق الصحيح هو أن تسعوا أولًا لكسر شوكة المسلمين، بالتعاون مع بريطانيا، وحينئذ لن تتمهل بريطانيا في الاعتراف لكم بالاستقلال، وتسليم مقاليد الحكم في البلاد إليكم».
وبناء على التنسيق والتفاهم الذي تم بين (ريدينج)، و(غاندي) قامت بريطانيا بالقبض على الزعماء المسلمين المنادين بالاستقلال، فأصبح الطريق ممهدًا أمام (غاندي) الذي طلب من هيئة المؤتمر الإسلامي الهندوسي أن تسلم له مقاليد الأمور بصفة مؤقتة؛ نظرًا لقبض بريطانيا على الزعماء المسلمين، وعندما عقد أول اجتماع برئاسته نفذ ما تم الاتفاق عليه مع الحاكم البريطاني (ريدينج)، وأعلن أن الوقت لم يحن بعد لاستقلال الهند.
يقول الأستاذ أنور الجندي -رحمه الله-: «لقد كانت دعوة غاندي إلى ما سماه اكتشاف الروح الهندي الصميم، والرجوع إلى الحضارة الهندية، هو بمنزلة إعلان حرب على الحضارة الإسلامية التي عاشت على أرض الهند أربعة عشر قرنًا، وغيرت كل مفاهيم الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بل إنها قد غيرت مفاهيم الهندوكية نفسها».
وعندما اطمأنت بريطانيا على مقدرة الهندوس على حكم الهند: قامت بترتيب الأمور لاستقلال الهند، لقد كان عام (1948م) الفصل الأخير من مسرحية غاندي وبريطانيا؛ حيث سلب الحق من أهله بإعلان استقلال الهند عن بريطانيا في تلك السنة، لكن مسرحية المقاومة السلمية التي قام غاندي فيها بدور البطل لا تزال تعرض إلى يومنا هذا.
بقي أن نشير إلى أن من يطلق شرارة الحقد والكراهية لا بد أن يكتوي بنارها، فقد مات غاندي مقتولًا عند استقلال الهند، ثم تبعه في عام 1978م آخر حاكم بريطاني للهند؛ حيث قتل على أيدي الثوار الأيرلنديين.
من عرض هذا النموذج، نستخلص عدة دلالات هامة؛ فقد أجاد الاحتلال البريطاني اختيار نموذج الزعيم، وصناعته، وتسويقه لدى شعب الهند بطوائفه المختلفة، فـ(غاندي) نحيل الجسد، فقير كأغلب الهنود، يُظهر التقشف في العيش، والزهد في الزعامة، وهي كلها صفات ضرورية ساعدت على تقريب صورته لدى الشعب الهندي، خاصة الفقراء منه، والذين كانوا يمثلون الغالبية العظمى من الشعب وقتها؛ حيث استنزف الاحتلال ثروات البلاد، واستولى على مقدراتها.
كذلك لم يظهر (غاندي) في البداية كراهيته للمسلمين، أو تعصبه الطائفي، بل تقرب وتودد إليهم تحت مزاعم التعايش والتآلف، وعلى الجانب الآخر كانت قوات الاحتلال تتبع خطة خبيثة ساعدته بدورها على نيل ثقة حركات التحرر المختلفة، وأبرزها الحركات الإسلامية ذات الجهود الحقيقية في مقاومة الاحتلال البريطاني وقتها، فقد كان تعامل الاحتلال الظاهري مع (غاندي) هو مناصبته العداء، من خلال مطاردته، بل واعتقاله لفترات قصيرة في بعض الأحيان، لإضفاء ثوب المقاوم عليه، بينما هما -غاندي والاحتلال- متفقان على المؤامرات التي يدبرانها وينفذانها ضد حركات التحرر الإسلامية في الخفاء.
وبذلك نجح الاحتلال البريطاني في صناعة وهم الزعيم (غاندي) وتسويقه في الهند؛ كي يختطف سلاح المقاومة، ويوجهه إلى ظهور حركات التحرر في البلاد تحقيقًا لمخططات وأهداف الاحتلال البريطاني.
ياسر العدني، صناعة الاحتلال البرتغالي:
أورد الأستاذ (محمود شاكر) في كتابه «المغالطات» ما يلي:
«عندما احتل البرتغاليون عدن عام 919 هـ رفض أهل هذا البلد الاحتلال، وقاوموه بما يملكون، ولكن استطاع البرتغاليون أن يقهروا السكان بما يحوزون من أسلحة نارية حديثة، واضطر القسم الأكبر من العدنيين إلى ترك موطنهم واللجوء إلى الأراضي المجاورة؛ حيث عُرفوا هناك باسم (اللاجئين)، وأُجبر القسم الأكبر من العدنيين على الخنوع والبقاء في ديارهم تحت عصا الذل وسيف الإرهاب، وحرصت الدول المجاورة، كمصر التي يحكمها المماليك، أن تقاتل البرتغاليين ولكنها هُزمت.
نجحت البرتغال في أن تمد قنوات بينها وبين حكام الدول المجاورة عن طريق المال والمصالح والسلاح، وكان التعاون بينهم في سرية بعيدًا عن أعين السكان؛ حيث كانت الشعوب ترفض هذا التعاون رفضًا تامًّا، فأظهر الحكام أنهم يعادون البرتغال، وهم يلتقونهم سرًّا، ويجتمعون معهم، حتى أن البرتغاليين أنفسهم -من باب المغالطة- كانوا يهاجمون هذه الدول علنًا؛ حتى يلبسوا على الناس أمرها، في حين لم يجرؤ أحد من هؤلاء الحكام الخائنين على الدعوة إلى الرضا بالأمر الواقع، أو الدعوة إلى السلام، رغم تعاونهم الخفي مع الاحتلال، بينما كان المخطط الصليبي يقضي بأن يتقدم كل حاكم -من الحكام عملاء الاحتلال- خطوة نحو إقرار الاحتلال كأمر واقع والرضوخ العلني له، ولكن طالت المدة، وزادت على خمسة عشر عامًا، نظرًا لتحفز الشعوب وكراهيتها -العقدية في المقام الأول- للاحتلال وأعوانه.. هنا برزت فكرة جديدة، وهي أن يتولى حل مشكلة التمهيد للرضا بواقع الاحتلال أحد أبناء عدن، فـوقـع اختيار الاحتلال على شـاب لم يتجـاوز الثلاثـيـن من عـمـره يُدعـى (عبد الرؤوف أفندي)، فعرض عليه أحد السلاطين العملاء أن يختار معه شبابًا يثق بهم؛ ليقوموا بتأسيس منظمة تعمل على طرد البرتغاليين المغتصبين، وتقوم السلطات بدعم هذه المنظمة ومدّها بما تحتاج إليه، وتعهد السلاطين بحمايتها ومد يد العون لها، ودعوة أعوانهم للانضمام إليها؛ فتبني أهل البلد مهمة العمل، ومُنح (عبد الرؤوف)، وعد بأنه سيكون له شأن كبير في الحكم، وستوفر له إمكانات مادية هائلة، هذا بجانب السلطة العسكرية وإصدار الأوامر.
وافق (عبد الرؤوف)، وحَلَّتْ منظمته محل حركة (مفتي عدن)، أو بالأدق اختطفت منها مشروع المقاومة واحتكرته لنفسها؛ حيث زعمت أنها هي قناة المقاومة الوحيدة في (عدن) ضد الاحتلال، ولا يجب أن تخرج بقية الحركات عن مظلتها، وإلا اعتبرت مناهضة لها ولمشروع التحرر برمته، حسبما زعمت.
كان الأمراء العملاء بدورهم قد اشترطوا على (عبد الرؤوف) ألا يخرج عن رأي السلاطين، الذي هو في الأساس رأي الاحتلال..، وقد كان.
فبدأ (عبد الرؤوف) تنفيذ اللعبة؛ حيث غيَّر اسمه إلى (ياسين)، وادعى النسب الحسيني كنوع من استغلال اليقظة الدينية في قلوب الشعب، وأسس منظمته، وأنشأ فصائل للقتال، وانخرط في صفوفها كثير من العدنيين المشردين، وبدأت تخوض المعارك، وتدخل إلى الأرض المحتلة، وتقوم ببعض العمليات الناجحة، فارتفعت أسهمه، وأصبح في مصاف القادة ورواد الأمل في العودة لدى المشردين.
نادى الزعيم الزائف (ياسين) بحمل السلاح بوصفه الحل الوحيد لإنهاء المشكلة، واللغة الوحيدة التي يفهمها العدو، وصار لا يقبل المهادنة ولا المساومة، وبالمقابل شن عليه الأعداء حملة شعواء واتهموه ومنظمته بالتخريب... إلى آخر تلك المزاعم التي هي أقوال حق يُراد بها باطل، وتدفقت عليه أموال التبرعات والمعونات، وأصبح على مستوى السلاطين.
في تلك الأثناء شن البرتغاليون غارات على مخيمات اللاجئين، وقاموا بعدد من المذابح الرهيبة؛ وذلك لتبدأ مرحلة جديدة من الصراع، حيث ضغطت الدول الأوروبية على السلاطين العملاء لإنهاء المشكلة، فعقدوا اجتماعًا، وقرروا الاعتراف بالوضع البرتغالي في عدن؛ على أن يتولى إعلان ذلك الزعيم العدني (ياسين)، وانتفض العدنيون المقيمون في موطنهم؛ مما دعا الأوروبيين إلى عقد مؤتمر عالمي لإحلال السلام في المنطقة، وإنهاء المشكلة، وأنيطت القضية بالزعيم (ياسين) الذي أعلن أنه مستعد لحضور المؤتمر العالمي، وأنه يتحدى البرتغال أن تحضر! -وهي التي تتمناه-، فتمنعت تمنع الراغب لإتمام اللعبة وإخفائها عن الشعب، وتقوية موقف (ياسين) وإبرازه على أنه هو الذي يدعو، وهي التي ترفض؛ أي أن الممتنع هو الموافق، والراضي هو الرافض!.. في ذلك الوقت أعلن أحد السلاطين العملاء أنه تخلى عن عدن، وأن أهلها أحرار يحلون أمورهم بأنفسهم -وهو الذي كان يعدُّ عدن جزءًا من أرضه-، فأصبحت عدن وحدها في مواجهة البرتغاليين. أعقب ذلك إعلان (ياسين ) أن لأهل عدن حكومة خاصة، وأنه على استعداد للاعتراف بالكيان البرتغالي، وبذلك أصبحت هناك حكومتان: إحداهما: لأهل عدن المشردين، والأخرى: للبرتغاليين، ولهم الجزء الأكبر من عدن، وقد استمر هذا الوضع حتى جاء العثمانيون عام 945 هـ، وطردوا البرتغاليين من المنطقة.
وهكذا، وبعد فوات الأوان، وقف أهل (عدن) يفكرون بالدور الذي مارسه (ياسين) عليهم، والمخطط الذي حاكه وساعده الاحتلال وعملائه على تنفيذه، وبدا وكأن لسان حالهم يقول: بقي (ياسين) يغالط علينا، حتى وصل بنا إلى ما كنا نخشاه، وهو إقرار الاحتلال كأمر واقع، ووافق على كل هذه الحلول التي كنا نرفضها، أعطيناه القيادة ليبيع قضيتنا، وليبيع أرضنا، وليبيعنا نحن أمام المحافل الدولية التي لا تعبئ بنا، ولينحر مشروع المقاومة على مذبح الاحتلال، لكن الوعي بذلك جاء -للأسف- بعد فوات الأوان. المغالطات، محمود محمد شاكر.
بعد عرض هذا النموذج، يجدر الانتباه لبعض الدلالات الهامة:
1- تشبه هذه القصة بأحداثها ما يحدث في واقعنا المعاصر؛ مما يدل على تشابه مخططات أعداء الإسلام عبر التاريخ في محاربة هذه الأمة، وصناعة العملاء الذين يكون لهم الدور الأهم في هذا العداء.
2- راعى الاحتلال وأعوانه في صناعة الزعيم الزائف عدة أمور، من أهمها:
أن يكون من أبناء الوطن المحتل، وأن يظهر بمظهر المقاوم الحقيقي ولو على حساب بعض الخسائر من جانب الاحتلال مقابل مكاسب ضخمة قادمة، مثل السماح له بتنفيذ بعض العمليات في قواتها، ولو بأسلحتها وأموالها التي أمدته بها.
3- لا يستطيع الزعماء والحكام والسلاطين العملاء أن يتحكموا في عقول الشعوب إلا بخداعهم وغشهم، وتغييب وعي الناس عن طريق وسائل إعلامهم في كل عصر، فمن مَدْحٍ للزعيم، وتضخيم لدوره، إلى شتم للأعداء -أحيانًا-، إلى دعوة للسلام... هذا كله لتغييب الشعوب وخداعها.
4- صناعة الزعماء: وهذا أهم هذه التعليقات، فهذا النموذج يوضح بجلاء كيفية صناعة الزعماء، وهذا ديدن أعداء الإسلام في كل زمان، فهم يختارون شخصية نفعية لا تحب إلا مصلحتها، وتعشق السلطة والمال، ثم يحاولون صناعته عن طريق إبراز دوره وتضخيم أعماله، بل ومناصبته العداء ظاهريًّا، فيحدث التلميع لهذه الشخصيات حتى تصير زعماء، وهذا هو الدور الخطير الذي تمارسه وسائل الإعلام.
صناعة الأحداث وتسويقها:
ماهية الحدث:
الحياة من جانبها المادي مجموعة من الأحداث التي تصدر لتحقيق غايات أو استجابة لمؤثرات، والحدث لا بد له من ظرف أو وعاء يحدث فيه من الزمان والمكان، والحدث الإرادي من صفات الأحياء، ولا ينفك ذلك عنه، فإذا انقطع منه الحدث كان ذلك دليل موته، أو ضعف حيويته ضعفًا شديدًا.
والأحداث إنما يصنعها فاعلها لتحقيق مصالح أو أغراض وأهداف. صناعة الحدث، محمد بن شاكر الشريف.
والأحداث قد يصنعها المرء بنفسه ليحقق بها هدفه، وقد يصنعها عن طريق معاونين له في ذلك، وتمثل هذه صناعة مباشرة للأحداث، ولكن هناك صناعة غير مباشرة، وهي التدخل في أحداث الآخرين؛ لتأتي محققة لأهداف المتدخل فيها، فإذا أمكن أن نجعل الآخر يصنع حدثه بإرادته ليحقق مصلحته -بحيث يكون ذلك محققًا لأغراضنا-؛ فإن ذلك يعد نجاحًا عظيمًا؛ إذ يتمكن الإنسان بذلك من جعل الآخرين -حتى وإن كانوا مخالفين أو معادين- ساعين أو مساهمين في تحقيق أغراضه بإرادتهم وفق قناعاتهم الخاصة بهم لتحقيق مصالحهم التي يرونها.
لكن السؤال الذي نحاول في هذا السياق أن نجيب عنه هو: ما آليات وأساليب صناعة الحدث؟ وكيف تستخدم صناعة الحدث كأحد أنواع المخططات المستخدمة في تحقيق الأهداف؟
للإجابة عن هذه التساؤلات، يجدر بنا في البداية استعراض أحد نماذج صناعة الحدث قديمًا لإيضاح هذا المفهوم، ففيما قصه الله علينا في قصة ملكة سبأ، حيث أبلغ الهدهد سليمان -عليه السلام- بخبر تلك المرأة التي تعبد هي وقومها الشمس من دون الله -تعالى-، كان الهدف الذي يريده سليمان -عليه السلام- هو هداية تلك المرأة وقومها، وعبادة الله وحده لا شريك له؛ لذلك لجأ -عليه السلام- لصناعة حدث متكامل، متعدد التفاصيل، وتسويقه إليها، بهدف ترسيخ مجموعة من الأفكار، تمهيدًا لتحقيق هدفه النهائي، وكان كالآتي:
1- بدأ بأن أرسل لها خطابًا قال فيه: {أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِين}[النمل:31]، وهذا أمر جازم يصدر إلى ملكة مما يشعرها بمكانة مرسل الخطاب وقوته؛ إذ لا يجرؤ أن يكلم الملكة بهذه الطريقة إلا من كان أقوى منها، وأعز جانبًا، فكان من شأن هذا: استعارة انتباهها واهتمامها بالخطاب، ومن ثم مرسله.
2- رفض قبول الهدية التي أرسلتها لتختبره أنها مقابل لتركها وما تعبد من دون الله، مما يدل على أنه رجل صاحب رسالة وليس طالب ملك أو مال؛ حيث قال -عليه السلام- للرسول حامل هدية الملكة: {فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُون. ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُون} [النمل: 36-37].
ويبدو أن الملكة بعد وصول هذا التهديد الشديد لها استشعرت خطورة القضية، فقررت الذهاب إليه؛ لتستطلع الأمر بنفسها.
3- أمر سليمان أحد جنوده أن يأتي له بعرشها قبل أن تصل الملكة إليه، وأمر بتنكير العرش أي تغيير وضعه وترتيبه، ثم جاءت؛ فوجدت العرش قد سبقها، وقيل لها: {أَهَكَذَا عَرْشُكِ}[النمل:42] أملًا أن هذا عرشها، رغم هذه التبديلات، فتعلم أن سليمان لم يكن لديه القدرة على إحضاره إلا بعون من الله، فيحملها ذلك على الإيمان، لكنها مع ذلك لم تهتد.
4- قيل لها: { ادْخُلِي الصَّرْحَ}[النمل:44]! فلما رأت الصرح حسبته لجة، وكشفت عن ساقيها؛ لتصون ثيابها من الماء، ولم تكتشف حقيقته، فقيل لها: إنه صرح ممرَّد من قوارير، وإنه لا خوف عليها من الماء، عند ذلك أدركت المرأة أن سليمان نبي من عند الله -تعالى-، وأن ما يدعو إليه هو الحق، فآمنت به، واعترفت بأنها كانت ظالمة لنفسها، وقالت كما في قوله -تعالى-: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين}[النمل:44].
وهكذا نرى في دلالة القصة الأساسية، أن سليمان -عليه السلام- كان يسعى لهدف هو إيمان الملكة؛ أي: أن يحملها على الانتقال من دينها إلى دين الإسلام، والانتقال من دين إلى دين آخر ليس بالأمر الهين أو اليسير، لذا فإنه يحتاج إلى قوة غير عادية لإحداث هذا التغيير، فلجأ إلى صناعة حدث هو من القوة، بحيث يحمل الملكة على الاهتمام، ومن ثم تعقب الحدث بالتفكير وصولًا للمرحلة الأخيرة وهي الإيمان لله -عز وجل-، وهذا ما يفسر لهجة التهديد التي أعقبها برفض هديتها، والتي كانت ناجحة بحيث أدت إلى تغيير موقفها، ووافقت على الذهاب إلى سليمان -عليه السلام-، وهنا انتقل -عليه السلام- إلى استعمال أسلوب آخر في سياق صناعته للحدث وتطوره، وهو التعامل مع قدراتها العقلية من خلال تنكير العرش، ومن خلال الصرح الممرَّد؛ حتى يتبين لها أن تلك الأفعال ليست في مقدور بشر غير مؤيد من الله.
وأما في الجانب المقابل؛ فإن الملكة في أول أمرها كانت تريد البقاء على دينها، وكانت تريد صرف سليمان -عليه السلام- عنها؛ ولذا فقد حاولت أن تتدخل في صناعة هذا الحدث بطريقة مضادة عن طريق المؤثرات، فأرسلت إليه بهدية، لكنها أخفقت في تحقيق ذلك؛ لأن ذلك اصطدم بالإيمان فغلبه الإيمان.
وفي هذا السياق، أو عبر هذا النموذج من صناعة الأحداث، تأتي قصة الصحابي ثمامة بن أثال -رضي الله عنه-، حيث كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو الناس إلى الإسلام، كهدف رئيس؛ لذلك كانت كل تصرفاته على مختلف أنحائها ووجوهها من أجل تحقيق هذا الهدف، ولنرى في قصة ثمامة كيف تحقق هذا الهدف من خلال صناعة الحدث وتسويقه، ونلاحظ أن الحدث في هذه القصة كان يتضمن فكرة جرى تسويقها لتحقيق الهدف الذي يبتغيه الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
يقول أبو هريرة -رضي الله عنه-: «بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- خيلًا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال؛ فسل منه ما شئت، فترك حتى كان الغد، ثم قال له: ما عندك يا ثمامة؟ قال: ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر،... فتركه حتى كان بعد الغد، فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي ما قلت لك، قال: أطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله...». «صحيح البخاري».
فثمامة هذا سيد قومه، وإسلامه علاوة على أنه خير له، ففيه -أيضًا- قوة للإسلام ومدعاة لإسلام قومه أو أكثرهم، ففي سبيل تحقيق هذا، سعى الرسول -صلى الله عليه وسلم- لصناعة حدث وتسويقه إليه، وذلك كالتالي:
1- اطَّلع ثمامة على عبادة المسلمين، وذلك من خلال ربطه في المسجد؛ ليرى إقبال المسلمين على الصلاة في خشوع ونظام، ويسمع القرآن الذي جعله الله -تعالى- هداية للقلوب، ويرى أثناء ذلك تعامل المجتمع المسلم من خلال تعامل الصحابة مع بعضهم، ومن خلال تعاملهم مع قائدهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولو حبسه في بيت من البيوت لما تحقق شيء من ذلك.
2- بيان أخلاق المسلمين في تعاملهم مع الأسري، وذلك من خلال إكرامه، وإحضار كميات كبيرة له من الطعام، فلم يقوموا بضربه أو تعذيبه؛ إذ لا فائدة هنا ترتجى من وراء ذلك، مما يكون له أثر كبير على موقف الرجل من الإسلام.
3- ما ظهر له من أن المسلمين ليسوا طلاب دنيا، وأنه لا يدعوهم إلى أسره الرغبة في جمع المال فلم يلتفتوا إلى قوله: إن كنتم تريدون المال أعطيتكم منه ما شئتم.
4- وقد تبين للرسول -صلى الله عليه وسلم- أن موقف ثمامة بدأ يتغير، وذلك من خلال اختلاف أجوبته، ففي أول مرة قدم التهديد حيث قال: أن تقتلني تقتل ذا دم، أي إن قتلتني؛ فهناك من يأخذ بثأري، لكنه ما عاد يكررها في المرات التالية، وقدم على ذلك مجازاة إحسان الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالاعتراف بالجميل والشكر عليه، وذلك بقوله: وإن تنعم تنعم على شاكر، وهنا أطلقه الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن الخير في إطلاقه على كلا الحالين: فهو إن أسلم؛ فذلك خير كبير وإن لم يؤمن، لكنه سوف يحفظ هذه المنة للمسلمين، كما قال: «إن تنعم تنعم على شاكر»؛ أي: يشكر هذه النعمة، ويكافئ عليها، فصار ليس في قتله فائدة، وقد صدق ما توقعه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ثمامة؛ فأعلن إسلامه، وشهد شهادة الحق.
5- وهكذا، نجد أن صناعة الحدث (أسر ثمامة، وربطه في المسجد)، كان يهدف إلى تسويق فكرة إليه (نمط التعايش في المجتمع المسلم)، بغية الوصول لهدف (إسلامه).
وإذا كان هدف سليمان -عليه السلام- من صناعة الحدث، وبعده الرسول -صلى الله عليه وسلم-، هو هدف مباشر، يرتبط بالحدث نفسه ولا ينفك عنه، ويفسر مقدماته وسياقه ونتائجه، فإن هناك بعض الأحداث التي تُصنع، فيبدو ظاهرها غير باطنها، فلا يرى المراقب الذي يُسوق إليه الحدث - شرط ألا يدرك في الوقت نفسه أن الحدث (مصنوع)، و(مفبرك) - الهدف الحقيقي من الحدث المسوَّق إليه؛ فيبتلعه، وينساق خلفه، ويحقق بالتالي أهدافه دون وعي ولا إدراك.
ولمزيد من الإيضاح والتفسير، نعرض لبعض النماذج التي تكشف بجلاء الأساليب الخداعية في صناعة الأحداث وفبركتها وتسويقها لتحقيق أهداف هي في حقيقتها بعيدة كل البعد عن طبيعة وسياق الحدث الذي تم صناعته وتسويقه.
حرب الخليج الثانية:
كانت أمريكا قد بدأت في الاستعداد لتنفيذ مخططها لتصبح إمبراطورية عظمى وحيدة في العالم (هدف استراتيجي)، وكان من شرط ذلك: أن تستولي على مصادر القوة الاقتصادية في العالم، بعد أن استحوذت على القوة العسكرية التي لا تقاوم، وأول ذلك: النفط؛ لتوقف جميع الصناعات على وجوده بوفرة (وسائل تحقيق الهدف الاستراتيجي)؛ لذلك اتجهت بنظرها صوب نفط الخليج لتستولي عليه، أو لتجعله على الأقل في المرحلة الأولى تحت سيطرتها وتصرفها، وكان مما يدخل في مخططها -أيضًا-: تأمين الوجود اليهودي في فلسطين، والقضاء على أية قوة يحتمل أنها تهدد ذلك الوجود؛ لذلك بدأت الإدارة الأمريكية بدراسة مكونات شخصية رجل مثل (صدام حسين) -والتي كانت قد ساهمت في صنعه وتسويقه حسب بعض الآراء-، والتعرف على أطماعه وأهدافه لعرض معاونته في تحقيقها (صناعة وتسويق الزعماء).
ومع المعرفة بضعف دولة مثل الكويت، إضافة إلى الخلافات القديمة بين البلدين؛ فقد جرى تسريب خبر لـ (صدام) فحواه أن أمريكا لن تتدخل في أي نزاع محلي ما دام ذلك لن يؤثر على الإمدادات النفطية التي تحتاجها، وقد كان ذلك بنزلة إشارة البدء لتحقيق الحدث الذي هدفت إليه أمريكا من وراء ذلك.
وقد قام (صدام) بالفعل باتخاذ الخطوة التي خططت لها أمريكا، وهي احتلال الكويت (تحقيق الحدث)؛ حيث أوقعه طمعه الشديد في ابتلاع الطعم الذي كانت صنارة الصيد ظاهرة فيه، ثم تداعت الأمور من استنكار دولي للاحتلال، إلى الانقلاب الأمريكي المفاجئ على الوعود المزعومة لـ(صدام)، وحشدها لقوات احتلال من مختلف بقاع الأرض، ثم غزوها الأول للعراق التي استفادت منه في نصب قواعدها على رقعة واسعة من بلدان الوطن العربي كنوع من التمهيد لهدف أكبر في الإستراتيجية الأمريكية، وهو احتلال العراق باعتبارها من أهم مصادر النفط، وأكثرها وفرة في العالم.
في ذلك النموذج تتضح لنا عدة دلالات هامة:
1- سعى الاحتلال في البداية إلى صناعة زعيم موالٍ له؛ ليكون جسر تحقيق أهدافه داخل الحصن (هذا إذا ما سلمنا بحقيقة أن «صدام حسين « كان صنيعة غربية، غير أننا نتحدث عن قاعدة عامة بغض النظر عن اختلافنا مع إدانة «صدام « بالعمالة والتبعية من عدمه).
2- دراسة وفهم طبيعة الطرف المراد تسويق الحدث إليه أو عبره، ومعرفة كل التفاصيل اللازمة لصناعة الحدث وصياغة تفاصيله، وطرق تسويقه بنجاح.
3- كان الحدث الذي تم فبركته وترويجه مختلفًا تمام الاختلاف عن الهدف الحقيقي منه، فالاحتلال الأمريكي زيّن لـ(صدام) احتلال الكويت، وفجأة وعقب وقوع الحدث، انقلب إلى جانب المعارض للاحتلال، بل واستغله ذريعة مثلت الجسر الذي عبر خلاله الاحتلال الأمريكي إلى المنطقة.. ويمكن على ضوء ذلك اتباع الرسم التخطيطي التالي:
رسم تخطيطي لكيفية صناعة الحدث وتسويقه (نموذج حرب الخليج):
أحداث الحادي عشر من سبتمبر:
يذهب فريق من المراقبين السياسيين والمحللين الاستراتيجيين إلى أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 قد رُتِّب لها على طريقة صناعة الحدث؛ إذ الخطط لاحتلال أفغانستان والعراق كانت معدة قبل ذلك، كما كشف عن ذلك كثير من المصادر الإخبارية والصحفية الأمريكية ذاتها، حيث تم صناعته والاستفادة منه لتسويغ احتلال أفغانستان، ومن بعدها العراق، ثم بسط سيطرتها العسكرية على رقعة عريضة من المنطقة العربية.
ويمكن القول: إن الأمر جرى على نسق النموذج السابق، مع اختلاف طبيعة الحدث وكيفية صناعته وتسويقه عبر المنظومة الإعلامية الغربية.
فضيحة سجن (أبو غريب):
من هذا النموذج، يتضح بجلاء الهدف الخفي المعاكس تمامًا والمناقض لنمط الحدث الذي تم تسويقه.
ويعرض الإعلامي الشهير (فيصل القاسم) لهذا النموذج بقوله: (لا شك أنه ما زال أمامنا وقت طويل جدًّا حتى نكتشف فنون وألاعيب وأساليب الإعلام الغربي صاحب الباع الطويل في الخداع والتعتيم والتجهيل ولي عنق الحقائق، وللأسف الشديد؛ فأنه ما زال قادرًا على التلاعب، ليس فقط بنا نحن المتخلفين إعلاميًّا، بل -أيضًا- بالشعوب الغربية ذاتها، وخاصة الشعب الأمريكي الذي تفعل فيه وسائل الإعلام فعلها؛ نظرًا لسذاجته المفرطة، ولدهاء الإعلام الشديد وقدرته الفائقة على صنع الرأي العام كيفما يشاء، وارتباطه الوثيق بدوائر صنع القرار.
وقد قال أحد السياسيين الأمريكيين قبل أكثر من خمسين عامًا: إنه بحاجة فقط لصحفي متمرس واحد حتى يطوع الملايين من العامة، فما بالك إذا كان الإعلام الغربي يمتلك إمبراطوريات إعلامية كاملة تستحوذ على أحدث وسائل التكنولوجيا وقنواتها وأدهى العقول الشيطانية والاستراتيجيات الإعلامية المرسومة بالورقة والقلم.
وبالرغم من الثورة المعلوماتية الجديدة المتمثلة في العولمة الإعلامية التي أسقطت الحدود الثقافية والإعلامية بين الدول، وجعلت المعلومة متاحة للجميع عبر الأقمار الصناعية والإنترنت وأدوات الاتصال الأخرى، إلا أن الإعلام الغربي ما زال يلعب الألاعيب القديمة نفسها ويمررها على رؤوس الأشهاد ببراعة يُحسد عليها حتى هذه اللحظة.
بعبارة أخرى؛ فإن الخدع الإعلامية ما لبثت تنطلي على الملايين، وآخرها بالطبع خدعة تعذيب المساجين في سجن (أبي غريب)، وجعلها الشغل الشاغل لوسائل الإعلام العالمية، ومنها العربية طبعًا حتى الآن.
لقد طبـّل الكثير من الليبراليين العرب الجدد لوسائل الإعلام الغربية والأمريكية تحديدًا؛ لأنها برأيهم كانت سباقة إلى فضح ممارسات الجنود والضباط الأمريكيين في ذلك السجن العراقي الرهيب، وعندما كان هناك من يحاول فضح الهمجية الأمريكية والبريطانية بحق الأسرى والمعتقلين العراقيين كان الليبراليون العرب يقطعون عليهم الطريق بالقول: (لولا وسائل الإعلام الأمريكية والشفافية الديمقراطية الغربية لما كنا سمعنا عن جرائم سجن أبي غريب)!
وبدلًا من إدانة ما حدث بأقسى العبارات كنا نراهم يحولون الأنظار عن الجريمة إلى (روعة الديمقراطية الغربية) التي تسمح حتى بأن تفضح نفسها.
وعلى ما يبدو: إن هذه اللعبة انطلت على بعض الناس حتى الآن، وكأن القضية بأكملها تخص شفافية الإعلام الغربي، مع العلم طبعًا أن الأمر بمجمله عبارة عن لعبة إعلامية خبيثة تخدم في نهاية المطاف المحتلين الأمريكيين والبريطانيين في العراق لا أكثر ولا أقل.
لماذا صوروا لنا فضائح سجن أبي غريب على أنها سبق صحفي عظيم؟
لا يمكن أن نصدق أبدًا أن أقوى وسائل الإعلام الأمريكية كان بإمكانها الوصول إلى فضيحة (أبي غريب) ونشرها لولا أن هناك من يريد نشرها في الأروقة السرية.
إن التوقيت تم في لحظة مخيفة: انتهاء قضية أسلحة الدمار الشامل، واحتمال تحولها إلى قضية ضد المحتل، فإذا بأبي غريب يمتص كل المرحلة الضرورية للقفز فوق هذه القضية والتعتيم عليها.
إن الفضل في الكشف عما يحدث في بعض السجون العراقية لا يعود إلى شفافية وسائل الإعلام الغربية، كما روج بعض الليبراليين العرب، بل إلى الدوائر السرية التي توجه الأحداث الإعلامية بما يخدم أغراضها، فقد كان ما جرى هو نوع من (الكشف المتعمد)، فليس من المعقول أن تنقلب وسائل الإعلام الغربية التي كانت تغطي وقائع الغزو الأمريكي من على ظهر دباباته وطائراته على المحتلين فجأة، وتبدأ في فضح ممارساتهم، خاصة وأن التاريخ لم يشهد تواطؤًا بين وسائل الإعلام ووزارات الدفاع الغربية كما حصل في غزو العراق، حيث عرفنا لأول مرة في تاريخ الإعلام والحروب ما يُسمى بظاهرة (الصحفيين المرافقين)، أو ما يُعرف بالإنجليزية بـ (embedded jounalists) الذين لم يكن مسموحًا لهم نقل أو تصوير أي عمليات إلا تلك التي يسمح بها القادة العسكريون الميدانيون، بحجة أن أي نقل إعلامي غير مسموح به ميدانيًّا قد يضر بالقوات المسلحة ووسائل الإعلام المرافقة لها على حد سواء.
لا عجب إذن أن رسم أحدهم كاريكاتيرًا صور فيه الجنود والصحفيين الغربيين وهم ينامون في فراش واحد للتأكيد على التواطؤ المفضوح بين الطرفين -أو لنقـُل: العلاقة الغرامية بين الجانبين-، كان حريًّا بمن يسمون الليبراليين العرب الجدد أن يتوقفوا مع أنفسهم لحظة لا لكي يكيلوا المديح (للإعلام الغربي الحر) حسب رأيهم، بل للتعرف على الأغراض الكامنة وراء الكشف عن فضائح (أبي غريب) في وسائل الإعلام الأمريكية أولًا، والبريطانية ثانيًا، وخلق ضجة عالمية حولها.
أكاد أجزم بأن الهدف من تعميم صور المساجين العراقيين على وسائل الإعلام العالمية وهم يتعرضون للتعذيب على أيدي الجنود الأمريكيين لم يكن بأي حال من الأحوال انتصارًا للمعذبين العراقيين وفضحًا لهمجية بعض المجندين الأمريكيين، بل بالعكس: للتمويه على أشياء أخرى، ولتلميع صورة المحتلين، وإظهار كم هم ديمقراطيون ورحيمون وشفافون، والأهم من كل ذلك: للتعتيم على ما يجري فعلًا على أرض العراق من مجازر وبشاعات حقيقية تفوق في بربريتها ما حدث للسجناء في (أبي غريب) بمئات المرات، وأيضًا لإخفاء المأزق الحقيقي الذي وجدت فيه قوات الاحتلال نفسها.
إذن نحن بصدد عمليات تعتيم إعلامية خطيرة للغاية، وليس عمليات فضح؛ فليس من الضروري -دائمًا- أن يكون التعتيم بالحجب، فما المانع أن يكون بالنشر إذا كان يؤدي الأغراض نفسها وأكثر.
بعبارة أخرى؛ فإن التركيز الإعلامي المكثف على جرائم سجن (أبي غريب) من خلال الكشف أولًا عن أناس عراة يتعرضون لسوء المعاملة، ومن ثم مهزلة التحقيق مع بعض الجناة من الضباط والجنود الأمريكيين، وبعد ذلك: إدانة أحدهم بالسجن لمدة عشر سنوات، وإعادة الشريط نفسه لكن هذه المرة من خلال التركيز على عمليات التعذيب التي اقترفها الجنود البريطانيون، كل ذلك ليس أكثر من مسرحية إعلامية ملعوبة جيدًا، وستستمر على ما يبدو لشهور وشهور لغرض واضح وضوح الشمس هو:
أولاً: تحويل الأنظار عما يجري فعليًّا على أيدي قوات الاحتلال من بشاعات يندى لها الجبين، وثانيًا: للتمويه على وضع قوات الاحتلال ذاتها.
فإذا جاء الكشف الأول عن قيام الجنود الأمريكيين بتعذيب معتقلين عراقيين للتغطية على فضيحة أسلحة الدمار الشامل التي لم تكن موجودة، فإن الكشف الثاني عن قيام الجنود البريطانيين بتعذيب الأسرى العراقيين جاء بدوره في توقيت ملعوب جيدًا للتعمية والتعتيم على تصاعد المقاومة العراقية الهائل، فأتت الضجة الثانية حول (أبي غريب) لإظهار قوة المحتل وقدرته على إذلال الشعب العراقي في إطار حرب نفسية تهدف لزرع إحساس الذل والقهر والانهيار.
القصة تهدف إلى خلق انتصار نفسي زائف لدى قوات الاحتلال والشعوب الغربية على حد سواء، وحرف الأنظار عمَّا آلت إليه أوضاع الاحتلال على الأرض.
إن ضجة سجن (أبي غريب) الإعلامية تذكرنا تمامًا بالمقولة الفرنسية الشهيرة: (الشجرة التي تحجب الغابة). «الشجرة التي تحجب الغابة»، فيصل القاسم.
وهكذا نرى أن فضيحة سجن (أبي غريب) -التي مثلت الحدث المراد تسويقه- لم يُقصد بها إظهار ديمقراطية غربية زائفة، أو عدالة كاذبة، وإنما كان الهدف الرئيس هو تعتيم على عدة فضائح أخرى وعثرات أكبر يواجهها الاحتلال في العراق، وبالتالي سعت لصنع هذا الحدث، مستخدمة منظومتها الإعلامية في تسريبه وتضخيمه؛ ليكون بمنزلة غمامة كبيرة تخفي أهدافًا أخرى.
متطلبات صناعة الحدث:
لصناعة الحدث عدة متطلبات، يكفل الإلمام الجيد بها نجاحًا في صناعة الحدث وتسويقه، و تحقيق الهدف الحقيقي من ورائه، من هذه المتطلبات:
1- دراسة كاملة وافية للطرف الذي يسوَّق إليه الحدث من جميع جوانبه، الشخصية (في حالة كونه شخص)، أو الجغرافية والحضارية والثقافية والاجتماعية (في حالة كونها شعوب وأمم)، فتتم دراسة الشخصية -إن لم يكن صنعها وتسويقها من البداية- من حيث طبيعة تكوينها النفسي، وطموحاتها وتطلعاتها، أو تتم دراسة البيئة التي يراد صناعة الحدث فيها من حيث الزمان والمكان، والإرث الحضاري، والتكوين الثقافي، والظروف المحيطة، وطبيعة المرحلة السياسية التي تمر بها، والمؤثرات التي تؤثر فيه سلبًا أو إيجابًا، وطرق تعزيز المؤثرات الإيجابية، وإضعاف المؤثرات السلبية، كما يتم في ذلك دراسة تأثير دول الجوار على نمط سير الحدث، وطريقة تسويقه من حيث تسريبه أو تفجيره.
ويتطلب ذلك بشكل عام: معرفة الآخر معرفة جيدة من حيث فكره وتصوراته، وعقائده وإمكاناته، وطبيعة الأفكار والتصورات التي تسود المجتمع، وكيفية مواجهة القيادات للأحداث والتفاعل معها، والمؤثرات التي تتدخل في صنع القرار السياسي، والحالة الاقتصادية، وغير ذلك مما يعكس رؤية الآخر رؤية واضحة مفصلة، تمكن فريق صناعة الحدث من تصميم الحدث تصميمًا ملائمًا للحالة.
2- دراسة الحدث نفسه، ونسب النجاح والفشل التي تتوقف على دقة الدراسات في العنصر السابق، ووضع احتمالات تنفيذه واختيار أفضلها، وكيفيات التحقيق الممكنة له، مع إمكانية التغيير وفق تطورات الواقع وما يستجد فيه من مؤثرات، فقد تستغرق صناعة الحدث عدة سنوات (كما في حالة الاحتلال الأمريكي للعراق) يتغير فيها أشياء كثيرة، لم تكن وقت التخطيط على مسرح الأحداث.
3- الاستكشاف الدوري لبيئة الحدث؛ حتى لا يحدث تغيير غير ظاهر قد لا ينتبه له مصممو الحدث، مما يكون له تأثير كبير على النتائج (وقد يكون ما يحدث الآن من المقاومة في العراق التي فاجأت الاحتلال نتيجة مباشرة لعدم قيام العدو بهذه الخطوة المهمة)، ولاستكشاف وسائل متعددة منها: الاستطلاعات، والاستبانات، والأبحاث التي تقوم بها مراكز الأبحاث المتخصصة، وغير ذلك من وسائل تجميع المعلومات، ثم تفرز هذه المعلومات، وتصنف وتجرى عليها الدراسات والمعالجات التي يتوصل منها إلى نتائج، تعتمد دقتها على دقة المعلومات المتحصل عليها، ودقة معالجتها.
4- سعة أفق الفريق الذي يقوم بصناعة الحدث أو التدخل فيه، والخبرة الطويلة، والحكمة في التصرف، مع الصبر والتأني وعدم الاستعجال والتهور، وعدم الرغبة في الظهور، أو إبداء المظاهر البطولية، وينبغي أن يعمل الفريق خلف الأضواء لا أمامها.
5- الاعتماد على الدراسات الدقيقة الموثقة، وليس على مجرد التصورات أو التحليلات الفكرية التي لا تستند إلى واقع صحيح، مع وجود البدائل المتعددة التي يمكن اللجوء إليها عند الحاجة.
6- في ضوء ما سبق، يتم وضع مخططات تنفيذ الحدث، باحتمالاته البعيدة والمتغيرة، وطرق ووسائل تنفيذه.
7- عدم تغيير أو تعديل الخطط المعدة مسبقًا لأي عارض يطرأ، ما لم يدرس الأمر دراسة جيدة، ويكون التغيير أمرًا لازمًا، على أن يتم اتخاذ الخطة الجديدة بالطريقة نفسها التي أقرت بها الخطة المعدلة.
تقنيات وأساليب صناعة الحدث:
من خلال ما مر بنا من أمثلة يمكننا أن نستنبط مجموعة من التقنيات والأساليب التي تستخدم في صناعة الحدث وتسويقه لتحقيق الأهداف المرجوة، فمن ذلك:
1- العقول المدبرة، والخبيرة في صناعة وتسويق الأحداث.
2- الدراسات الوافية، والبيانات الدقيقة.
3- المنظومة الإعلامية القوية التي تكفل تسويق الحدث، والمساهمة في تفجيره أو تسريبه.
4- إرباك الطرف المقابل، وهو ما يتطلب براعة في صياغة مخطط الحدث.
5- الإيهام: كأن تقوم بتصرف يوهم الطرف المقابل بما تريد أنت أن يتصوره من غير أن يكون لذلك حقيقة، مثال واقع سجن (أبي غريب).
ومن الأمثلة المعاصرة على ذلك -أيضًا- ما قامت به مصر قبل حرب العاشر من رمضان من محاولة إيهام اليهود بأن مصر ليست مقبلة على الحرب أو القتال؛ إذ نزل إعلان في الصحف المصرية بفتح باب القبول لطلبات الحج من الضباط المصريين الراغبين في أداء فريضة الحج، فكان في ذلك إيهام لليهود أن مصر ليست مقبلة على قتال، مما يساعد على تشويش التفكير اليهودي حول النوايا المصرية في الحرب.
6- ومما يساعد في تلك الأساليب ويعين عليها: اختيار الوقت المناسب والظرف المناسب، والإحاطة بدقائق الأمور وخصائصها المتعلقة بالحدث، سرعة التحرك والاستفادة من الفرص المتاحة، بناء قاعدة معلومات عن الطرف المقابل، التوازن وعدم الاضطراب في مواجهة الأمور، التفكير في أكثر من اتجاه، وعدم حصر التفكير في اتجاه واحد، وإيجاد أكبر عدد ممكن من البدائل للجوء إليها عند الحاجة إليها، تقسيم الحدث إلى عدة أحداث جزئية كل منها يؤدي إلى الآخر، توظيف الحدث القائم -أي الاستفادة منه- إذا لم يمكن صناعته.
7- ومما ينبغي معرفته: أن أساليب الصناعة والتسويق تختلف من حدث إلى آخر، فكل حدث له أسلوب يناسب صناعته، بل الحدث الواحد يختلف أسلوب صناعته وتسويقه باختلاف البيئة التي يطبق فيها أو عليها.