التجربة الإعلامية الأمريكية في تسويق الأفكار
من أضخم التجارب الإعلامية التي يستفاد من دراستها: علم تسويق الأفكار (التجربة الأمريكية) التي تمثل الثقل الأكبر للإنتاج الإعلامي في العالم كله؛ فتسيطر على أكبر وكالات الأنباء، ولديها (22) وكالة دولية للإعلان من أصل (25) وكالة دولية، وهي أكبر مصدر للبرامج الإعلامية في العالم، ولديها أكبر الشركات الإعلامية في العالم، وتسيطر على كثير من المؤسسات الإعلامية في خارجها، كما أن التجربة الأمريكية من التجارب التي تقوم على فكر وعقيدة، وليس على مجرد نزوات عابرة، ويسيطر على هذه التجربة أقلية في المجتمع الأمريكي، يستخدمونها في كل تعاملات أمريكا مع العالم الإسلامي، ولتوضيح ذلك سنركز الضوء بشكل سريع على عدة أبعاد، منها:
التجارب الأمريكية في ألمانيا:
التجربة الألمانية التي سميت: (إعادة تربية الألمان)، أو: (خطة مارشال)، والتي قامت إبان الحرب على ألمانيا ومكافحة النازية، فأعدت برامج، واستقطبت أفلام تحارب النازية والهتلرية، وتقلل من إمكانية النهج الألماني، وتروج أنه يقود إلى الهلاك والدمار والخراب والفساد، وسلط على ثقافة وموروث الألمان ومناهجهم الدراسية، ونادى بغربلة هيكل الإعلام والثقافة والسياسة والاقتصاد رجاء التأثير على أدمغة الألمان، ومن ثم سيرهم نحو التغيير بما يناسب الدعوة الأمريكية، ويتوافق مع الرؤية الأمريكية، فنجحت أمريكا في تأسيس صحف وتسليمها تدريجيًّا لطواقم محلية، ونجحت في إعادة تصميم الإعلام والسياسة والاقتصاد. قناة الحرة وأمركة العقل العربي، آل داود عبد العزيز بن زيد.
ولما قامت الحرب الباردة كانت حرب إعلامية واضحة بين فكرين ورؤيتين مختلفتين، كل واحدة منهما تحاول أن تصوغ الحياة والثقافة والفكر بما يناسب رؤيتها؛ فمنعت أمريكا الدعوة إلى الشيوعية، ووضعت سلسلة من الأفلام التي تظهر نجاح رؤيتها، وعوار رؤية المخالف لها، بل وتُظهر الأبطال الذين يحاربون التخلف الشيوعي، والشعوب المقهورة المحرومة التي تعيش في المجتمع الشيوعي، وتظهر جمال وقوة ومتعة البضائع الأمريكية؛ حتى عد بعضهم افتتاح محلات (ماكدونالدز)، والحضور الكبير من الروس، لها علامة على سقوط الشيوعية، وتغلب المشروع الأمريكي.
التجربة الأمريكية في العالم الإسلامي
ما ذكرناه من التجار ب السابقة ما هو إلا توطئة للدخول إلى التجربة الأمريكية في العالم الإسلامي، وبيان أن هذا الأسلوب الأمريكي تستخدمه مع كل أعدائها، وبيان لسبب نجاح أمريكا فيما سبق، وبيان لجزء من فشلها في العالم الإسلامي:
حرب أفغانستان:
قبل بداية الحرب على أفغانستان، وبدعم سخي من الكونغرس الأمريكي: تم إطلاق بث إذاعي موجه للمستمعين الأفغان في عهد طالبان، عندما كانت الإذاعة ولا زالت إلى حد ما هي وسيلة التواصل الأولى وشبه الأخيرة بين الأفغان والعالم، وقد تزامن ذلك مع إلقاء أجهزة الاستقبال الإذاعي من الطائرات العسكرية الأمريكية بكميات سخية على مناطق تجمع الأفغان أثناء الحرب، لربطهم مع ما يقوله مذيعو أمريكا إلى جانب استقبال بث (بي بي سي) المرغوبة محليًّا، كما جرى قبيل مرحلة التحول التي شهدتها أفغانستان إعداد كوادر إعلامية أفغانية في واشنطن، مع التركيز على النساء، وكان من السهولة استقطاب بعض المنتمين والمنتميات للطبقة الإعلامية والثقافية المرتبطة سابقًا بالغزو السوفييتي لأفغانستان.
حرب الخليج الثانية:
استخدمت فيها أمريكا قريبًا من الوسائل التي استخدمتها في أفغانستان، فقد ألقت قوات التحالف المنشورات على القوات العراقية الغازية للكويت تطلب منها الاستسلام، وتحدد لها مواطن الملاذ الآمن بالرسوم والخرائط.
حرب الخليج الثالثة (تحرير العراق!!):
والتي استخدم فيها أعلى أنواع الخداع والتلاعب بالعقول، حتى سميت: (أسلحة الخداع الشامل)، وهو عنوان كتاب من تأليف كاتبين أمريكيين، واستخدم فيها من أساليب الخداع الطوعية والجبرية الشيء الكثير؛ فمثلًا:
- حملت القوات الأمريكية المراسلين معهم على حاملة الطائرات (إبراهام لنكولن) وغيرها، ووضعهم تحت المراقبة والإقامة الجبرية، وزودهم بتعليمات من اثني عشر صفحة تنظم عملهم، وتحولهم إلى ناطقين باسم القوات التي يرافقونها.
- المؤتمرات الصحفية في مركز السيلية في قطر، ومؤتمرات البيت الأبيض التي قادها (آري فلايشر)، ومؤتمرات وزارات الدفاع والخارجية.
- ملايين المنشورات مع الرسائل الإذاعية التي تبث عبر الهوائيات الأرضية أو المحمولة على طائرات سي 130 التي دعت القطاعات العسكرية للاستسلام.
- الإشاعات التي كانت تطلق من بداية الحرب عن مقتل صدام حسين، أو عزت إبراهيم، وطه ياسين..، وغيرهم، أو سقوط أم القصر والفاو، واستسلام الفرقة 51 التابعة للجيش العراقي في البصرة.
- تصوير ما يجري في الساحات على أنه نشاط إنساني، من خلال تركيز الصورة على الجنود الأمريكيين وهم منهمكون في نشاطات إنسانية؛ كتوزيع الأغذية، وتقديم المساعدة.
- تغيير المصطلحات؛ فالنظام العراقي بدلًا من الحكومة العراقية، وفرق الموت بدلًا من فدائيي صدام، وتحرير العراق بدلًا من احتلال العراق.
- استخدام وسائل التأثير والحرب النفسية على الصحفيين حتى يخرجوا من بغداد قبيل الحرب، بل وتحذير (بوش) لهم بنفسه.
- التأكيد على فرح العراقيين بانهيار النظام العراقي في مجموعة مقابلات وهتافات مع مختلف الفئات العمرية، وهم يهتفون بحياة (بوش) و(بلير)، ويلعنون حزب البعث وصدام.
- مجموعة من الصور المقصودة المنتقاة؛ مثل :
- عراقي يُقدّم لمجندة أمريكية وردة.
- عراقي يُقبّل مجندة في خدها.
- عراقيون يرقصون فرحًا، أو يُقطّعون صور لصدام.
- مجموعة من الأفلام المخرجة إخراج هوليوديًّا؛ منها:
- فلم (سقوط التمثال) موقع الفلم في ساحة فلسطين في بغداد، وسلطت الكاميرات على جمهرة من السكان وهم يساعدون القوات الغازية على إحكام الحبال حول رأس التمثال، وبواسطة علم أمريكي، ثم غيَّر المخرج ليضع علم عراقي، ثم استمرت الكاميرا تنقل جموع عراقية وهي تنهال عليه بالضرب والرفس والأحذية في مدة أربع ساعات، ثم أعيدت بعض اللقطات طوال الأيام التالية.
- فلم (الكهف)، أو (القبض على اللص)، وهو أشهر فلم عام 2003م، وهو فلم صدام حسين مختبئًا في الكهف، أشعث أغبر كث اللحية، ثم صورة البحث عن أسلحة الدمار الشامل!! في شعره وداخل فمه وهو يعامل معاملة البقر؛ لتكسر ما تبقى من عزِّة وأنفة في نفوس أصحاب المقاومة، ولترسل رسائل واضحة لكل من يعادي البطل الذي لا يهزم، والجندي الذي لا يغلب، والدولة التي لا تقاوم، ولقد فهم رئيس إحدى الدول العربية رسالة الفلم جيّدًا؛ ففتح كل منشآته للتفتيش بعد مشاهدة الفلم مباشرة.
الوسائل الإعلامية الأمريكية في تعاملها مع العالم الإسلامي
لعلم أمريكا بأهمية الإعلام في تسويق الأفكار التي تريد، وضعت صورة ذهنية نمطية عن الإسلام والمسلمين تساوي التخلف والإرهاب والعنف والقتل والجنس والحريم.. وما شابه ذلك.
ولقد انخرطت هوليود في حرب ضد الإسلام خلال العقدين الماضيين، وكان أضخم أفلام هوليود مثل: (أكاذيب حقيقية)، و(القرار الحاسم)، و(الحصار) ترسم صورة للإسلام معادلة للإرهاب، وتعمل على تكييف الرأي العام الأمريكي على توقع الأسوإ من حضارة رسمت على أنها إرهابية وأصولية متعصبة. «أكبر أحمد، رئيس مركز ابن خلدون للدراسات الإسلامية بالجامعة الأمريكية في واشنطن».
ومن جانب آخر سعت للغزو الفكري، وتسويق الأفكار التي تريد في العالم الإسلامي بوسائل كثيرة؛ منها:
استنساخ الوسائل الإعلامية:
قامت أمريكا بوضع وسائلها الإعلامية الخاصة، والتخاطب مع الشارع العربي مباشرة بدون وساطة من الأنظمة المحلية، وتم ذلك باعتماد ميزانيات ضخمة وبتقنية عالية، وهذه بعض الأمثلة:
صوت أمريكا:
انطلقت عام 1942م، وأقر لها ميثاق سمي: (ميثاق صوت أمريكا)، ينص على أن تقدم الرأي والرأي الآخر، حتى ضغط (شمعون بيريز)؛ فتغيرت تلك السياسة، وهي تمتلك أكثر من 20 مكتبًا، وتعد اللغة العربية اللغة الثالثة بين لغات صوت أمريكا من حيث عدد ساعات البث؛ إذ تبث سبع ساعات يوميًّا، وهي النشاط الرئيس الذي من خلاله تدار التوجهات الإعلامية الأمريكية.
إذاعة سوا:
وهي تجربة إذاعية تقوم على خلط منوعات غنائية وموسيقية غربية بأخرى عربية مع حشوها بصورة متقنة بالرواية الأمريكية لأحداث المنطقة والعالم، المتمثلة في نشرة إخبارية رشيقة مقتبسة من إذاعة صوت أمريكا بالعربية، وتستهدف الإذاعة الذين تقل أعمارهم عن الثلاثين عامًا، وتبث بخمس لهجات عربية محلية هي: مصر، والعراق، والسودان، ودول الخليج. بدأت بثها في 2002م على موجة FM وموقع إنترنت، وعلى قنوات نايل سات، وعرب سات، وبيرد سات، وهوت بيرد.
مجلة (هاي):
مجلة شهرية ملونة للشباب، ظهرت في يوليو 2003م، وميزانيتها السنوية تقدر بأربعة ملايين دولار، تُدفع من الضرائب الأمريكية، وتخاطب شريحة الشباب من 28-35 سنة، وعدد صفحاتها 70 صفحة، تتناول موضوعاتها أخبار الفن والطرب، والرياضة، ومعلومات عن الجامعات الأمريكية، وتركز على النقاط التي يعتبرونها إيجابية في الثقافة الأمريكية، تطبع المجلة 50.000 نسخة، تعرِّف المجلة نفسها بأنها تصدر بمساعدة الخارجية الأمريكية من أجل إبراز القصص والقيم والتقاليد الأمريكية، وإشراك الفكر العربي في التعرف عليها.
قناة الحرة:
بدأت القناة بثها باللغة العربية في 24/2/2004م ببث 14 ساعة يوميًّا من البرامج، ثم امتد البث إلى 24 ساعة، وتبث نشاطها عبر القمرين الرئيسين في المنطقة: (عربسات)، و(نايل سات)، وشعارها: حصان عربي يجري في الفواصل بين البرامج، يعمل بها فريق يضم نحو 200 إعلامي عربي، لا يتجاوز معدل أعمارهم 30 عامًا، يشرف عليها مجلس أمناء، وهو عبارة عن وكالة أمريكية مستقلة للبث الدولي حول العالم، وتشرف -أيضًا- على شبكة إذاعات (صوت أمريكا)، ويتألف مجلس الأمناء هذا من 9 أعضاء منهم 4 جمهوريين، و 4 ديموقراطيين، إضافة إلى وزير الخارجية بحكم منصبه.
خصص الكونجرس الأمريكي ميزانية قدرها 63 مليون دولار لتمويل القناة لعام 2004م فقط، ولكن ميزانيتها المقررة 400 مليون دولار، تنوي افتتاح فرع لها في بغداد بمبلغ 40 مليون دولار، تعرف قناة الحرة نفسها على موقعها على الإنترنت بأنها قناة تلفزيونية غير تجارية، ناطقة باللغة العربية، ومكرَّسة بصفة رئيسية لتقديم الأخبار والمعلومات، وتغطية الأحداث في الشرق الأوسط والعالم عبر الأقمار الصناعية. (للمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع إلى : - عبد العزيز آل داود، قناة الحرة و أمركة العقل العربي،، - باسل النيرب، قتل الشهود،)
أمريكا واختراق الإعلام العربي:
بالإضافة لوسائل أمريكا المباشرة في التعامل مع الشعوب العربية، فإن أمريكا -أيضًا- استهدفت إصلاح الإعلام العربي، أو إعادة تأهيله، أو ما يسمى بإعادة تربية العرب، ولها في ذلك وسائل كثيرة؛ منها:
- تبنيها لصحف عربية تصدر بتمويل أو دعم من واشنطن مباشرة.
- الملاحق والصفحات المترجمة عن الصحف الأمريكية في أغلب الصحف والمجلات العربية.
- البرامج التي تباع أو تفرض على القنوات العربية لمحاولة تحسين الوجه الأمريكي.
- الوجود المستمر لكتَّاب ومفكرين وساسة أمريكان في وسائل الإعلام العربية.
- التسويق وإعطاء الأولوية لبعض الكتَّاب والمفكرين العرب المرتبطين ارتباطًا مباشرًا ووثيقًا بواشنطن.
- المنح المقدمة للقنوات لتحسين الوجه الأمريكي، والدفاع عن المساعي الأمريكية لنشر القيم الديمقراطية في المنطقة.
- تشجيع التبادل والحوار بين الصحفيين عبر تنظيم زيارات لهم للأراضي الأمريكية، ومنحهم دورات تدريبية.
التعامل مع الوسائل الإعلامية غير المدجنة:
- يبقى هناك وسائل إعلامية أو على الأقل بعض الإعلاميين لم تقبل، ولم يقبلوا أن يكونوا بوقًا مباشرًا وصريحًا لأمريكا، وهذه يتم التعامل معها بأساليب عنيفة وغير ديمقراطية، بل وغير حضارية أو إنسانية؛ فعلى سبيل المثال:
- قتل طارق أيوب: فقد قتل مراسل الجزيرة طارق أيوب بصاروخ أطلق من طائرة أمريكية على مكتب قناة الجزيرة.
- قتل مصوري العربية: بعد عام تقريبًا من قتل طارق أيوب قُتل مصورو قناة العربية (علي الخطيب)، و(علي عبدالعزيز)، وأغلقت مكاتب قناة العربية، وقتل مصور رويتر الفلسطيني (مازن دعنا) في حوادث واضح أنها مقصودة ومرتبة.
- استهداف مكتب الجزيرة في أفغانستان، وملاحقة مراسلها (تيسير علوني) وكيل التهم له في أكثر من دولة.
- فرض قيود على الإعلام العراقي أكثر من القيود التي كان يفرضها النظام البعثي المنهار، لدرجة أنها عطلت قيام أجهزة الإعلام العراقية لحين نقل السلطة للعراقيين.
- إغلاق ما يمكن إغلاقه من مواقع الإنترنت التي لا تعبر عن وجهة النظر الأمريكية في الأحداث؛ مما حدا ببعضها للخروج من الاستضافة الأمريكية للاستضافة الأوروبية أو الكندية، وللأسف ليست العربية.
- التهديد والتلويح بالعصا أكثر من مرة لقناة الجزيرة، عن طريق الضغط على الحكومة القطرية ووزير خارجيتها خاصة، أو عن طريق التهديد المباشر، كما طالب (بوش) الفضائيات بعدم بث صور الأسرى، وهدد وزير دفاعها (دونالد رامسفيلد) بمقاضاة وسائل الإعلام التي تنقل هذه الصور.