في صفات رجال الفكر، ورجال المشاريع، ومن جمع بينها
أولاً: صفات رجال الفكر:
يتميز رجال الفكر بالعديد من الصفات التي تحدد ملامح شخصياتهم، من أهمها:
1- فكري:
نعم، فكري.. فهذا عالمه، يحب الأفكار، ويعشق الأفكار، ويناقش الأفكار، ويدافع عن الأفكار، ويقرأ الكتب التي تتحدث في الأفكار، ويجلس مع أصحاب الأفكار، ويتابع البرامج الفكرية.
ويمكن القول بأن الفكر بالنسبة لهذه الفئة هو حياتهم، يعرفون أهميته، ويحسنون طريقته، ويلاحظون آثاره، يقدرون الفكر وأصحابه، ويجفلون من البعد عن عالمه، قدراتهم فيه متميزة وإمكاناتهم فيه متوثبة، يحبون الجلوس في عالمه والتألق مع أفكاره.
2- حالم:
فالأفكار في أحد معانيها هي أحلام، ورجل الفكر يرتبط كثيرًا بأفكاره أكثر مما يرتبط بواقعه، يرى أن الواقع يربط الفكر ويقيده، والفكر مساحته أوسع من أن يقيده واقع يتغير كل يوم.
إنه حالم يستطيع أن يرى بنور فكره ما ليس موجودًا في واقعه، وأن يضيء بنور فكره ما أظلم في واقعه، المستحيل لديه هو ما لم يستطع تخيله أو الحلم به، أما ما أمكن الحلم به فليس بمستحيل البتة، بل هو نقص في الواقع الذي لم يستطع الارتقاء إلى أحلامه، يستطيع أن يرى الواقع حلمًا، كما يستطيع أن يتخيل الحلم واقعًا، وهذه الصفة ترفع من قدرات المفكر وتألقها وتنميها وتحسنها.
3- مرن فكريًّا:
تسمح له لياقته الذهنية بالحركة في أي اتجاه، مرن عقله فأصبح ذا مرونة فائقة، ونمى فكره فأصبح ذا مرونة قوية، يستطيع أن يتبنى الآراء ولو بدت عند غير أصحاب الفكر متناقضة، يفهم كيف يدخل في الفكرة وكيف يخرج منها، يحسن الممايزة بين الأفكار وتحديد فروقها، يتمكن من التراجع عن فكرة متى بدا له خلاف رأيه، ليس واثقًا من رأيه بطريقة جامدة، ولكنه واثق بقدرته على الخروج بالرأي الصواب في كل مرحلة، ونظرًا لمرونته العقلية تجد أن حجته قوية؛ إذ إن مرونته العقلية تكسبه حجة ذهنية.
4- مقنع فكريًّا
قوي مقنع، لو ناظرك بأن هذا التراب ذهبٌ لأفحمك، ولو جادلك أن الليل نهار لألجمك، قوة إقناعه ناتجة من مرونته العقلية، ونضج الفكرة الذهنية، ووضوح الحقائق العقلية، عند حواره مع غير أصحابه - مثل حواره مع أصحاب المشاريع - ربما كان إقناعه أقرب إلى الإفحام والإلجام منه إلى الإقناع، لأنه وإن ذكر حججًا عقلية كثيرة إلا أن الإقناع لا يكفي فيه الحجج العقلية فقط.
5- شجاع في الفكر:
واثق من فكره؛ لذا فهو شجاع في فكره، يتبنى الرأي الذي يقتنع به ولو عارضه الناس كلهم، ويرجع عن قوله لو تبين له خطؤه ولو علم برجوعه الناس كلهم، يجادل ويحاور ويناقش من أجل فكره، بل ربما عاش ومات من أجل أفكاره؛ سبب ذلك أن قيمة الفكر والأفكار عنده أغلى من قيمة المال والحياة؛ لذا فهو يضحي بكل شيء من أجل أفكاره وفكره.
6- كريم في العلم:
قناعته الراسخة بأفكاره وفكره وقيمتهما العالية في نفسه تجعله يود لو أن كل الناس تعلموا هذه الأمور منه، يبذل فكره بالمجان، بل ربما بذل الوقت والجهد والمال أحيانا ليتعلم الناس أفكاره، سعادته لو علم فكره وأفكاره أو سيطرت أفكاره على الناس، ومن هذه الصفة يشعر - إن شعر - باحتياجه لأصحاب المشاريع لتنفيذ أفكاره.
ثانيًا: صفات رجال المشاريع:
كذلك فإن أصحاب المشاريع، يتميزون بصفات ربما تبدو مناقضة لصفات رجال الفكر، أو قليلة الاتفاق معها، من أهمها:
1- عملي تنفيذي:
يحب العمل والفعل، ويعشق إنهاء الأعمال والإنجاز، ينافح من أجل إنجاز عمل ما، ويكافح من أجل عمل ما يمكن عمله، يفكر بطريقة عملية لا تسمح للخيال أن يبحر، ولا للفلسفة أن تسبح، يحب أن يؤكد على ما يمكن عمله وفعله لا ما يمكن فلسفته، يسأل دائمًا عن كيف؟ لا عن لماذا؟، فالمهم ما يطبق لا ما يفكر في تطبيقه.
2- جداول زمنية وقيمة وقت عالية:
من حرصه على الفعل والعمل وعلى تطبيق ذلك وتحويله لواقع، يحرص على جدولته زمنيًّا، يعرف أن أي عمل لم يوضع له جدولة زمنية سيسبح ويحلق في الفكر لا في الواقع، يؤكد على أن الفكر لا يحتاج لتحديد الأوقات، ولذا لا قيمة له، بينما الفعل لا بد أن يرتبط بوقت؛ لأنه هو المغير الحقيقي للدنيا، يذكرك دائمًا بقانون باركنسون بأن - العمل يتمدد ليشغل الوقت المتاح له-.
3- قيمة المال عالية:
قيام المشاريع يعتمد كثيرًا على المال؛ ولذا فقيمة المال لديه عالية، يشعر أحيانًا بأن كل شيء يمكن أن يقوم بالمال، فالكوادر البشرية تحتاج إلى مال لاستقطابها، والموارد والأصول تحتاج إلى مال لشرائها، والفرص تحتاج إلى مال لاقتناصها، فهم ليسوا بالضرورة بخلاء، ولكن حبهم للمشاريع وقيامها يجعل عينهم لا تنصرف عن النظر إلى المال الذي هو عصب قيام المشروع.
4- مقنع عمليًّا:
طريقته في الإقناع عمل وفعل، فإن أراد أن يقنعك بشيء عمله أمامك أو أحضر لك نموذجًا لشخص عمله وقام به، فهو لا يرى فائدة من كثرة الكلام بلا عمل وفعل، قوة حجته من قوة عمله، لكنه ربما لا يستطيع أن يقنعك بما لا تراه عينك أو تسمعه أذنك مباشرة!، ولذا لا يعرف إقناعك برؤية مستقبلية لا تبنى على معطيات عملية الآن.
5- واقعي منطقي:
يحكمه الواقع كثيرًا، فلا يحسن السباحة في الخيال ولا الإبحار في الفكر، ضعيف في الابتكار الخلاق الذي يصنع فكرة جنسها ومثلها غير موجود، لكنه أيضًا يفهم الواقع ومنطقه، يفهم التعامل معه واستغلاله، ويحسن تقييمه والفعل فيه.
ثالثاً: صفات من لديهم قدرة على تحويل الأفكار إلى مشاريع (القادة):
بعد أن استعرضنا الصفات المميزة لأهل الفكر، ثم أهل المشاريع، نجد أن الأشخاص القادرين على تحويل الأفكار إلى مشاريع، وهي فئة – القادة-، تتميز بالعديد من الصفات المهمة، التي تشكل ملامح قيادتها، من أبرزها:
1- الجمع بين الصفتين:
يجمعون بين ما يبدو متناقضًا، ويؤلفون بين ما يبدو متعاكسًا، فهم حالمون واقعيون، أصحاب فكر وأصحاب فعل، مقنعون فكريًّا وعمليًّا، دقيقون في الوقت، ولكن يعطون للفكر وقته، كرماء في العلم والفكر كرماء في الفعل والجهد، ويستخدمون لذلك عددًا من الآليات، منها:
إدارة التناقض:
كل مشروع ناجح أو شخص ناجح أو فكر ناجح قادر على الجمع بين ما قد يبدو لدى الضعفاء مستحيلًا، حتى عدَّ أحدُ أكبرِ كتَّابِ الإدارة - جورج بيتر- أن من أهم صفات المؤسسات الرائدة: إدارة التناقض والالتباس، فهم يعرفون الفروق بين هذه الصفات فيستغلون كلًّا في موضعه ووقته وطريقته، مما يجعل ما بدا تناقضًا أقرب إلى التكامل!، ولذا كملت شخصياتهم وكملت مشاريعهم.
استراتيجية دزني:
أحد النماذج الجيدة لشرح كيف يمكن أن يجمع الشخص أو المؤسسة أو المشروع بين ما قد يبدو متناقضًا ما تعورف بتسميته استراتيجية دزني، شركة دزني توظف أناسًا حالمين جدًّا، وأناسًا واقعين جدًّا، وتطلب منهم أن يتفقوا على تطوير معين بوجود مسهل أو ميسر للحوار، فيقترح الحالمون مثلًا أرجوحة من أشعة الشمس، ويتم الحوار مع الواقعيين إلى أن تصبح أرجوحة لكنها بطريقة جديدة مبتكرة وواقعية، نموذج أو استراتيجية دزني كما يمكن أن تقوم به الشركات والمؤسسات يمكن أن يقوم به الأفراد فيكونون قادة قادرين على تحويل الأفكار إلى مشاريع.
2- طمأنينة رغم التناقضات:
لا يستطيع القادة جمع هذا التناقض الذي يؤدي إلى توتر ما لم يكن لديهم من الاستقرار النفسي والاستقرار الداخلي الشيء الكبير الذي يحتمل ما يبدو متناقضًا ويوظف كل واحد في مكانه ووقته، هذه الطمأنينة الداخلية والاستقرار الداخلي هو الذي يمكنهم من جمع ما يبدو متناقضًا ومن توظيف كل صفة في زمانها ووقتها، فمن أين أتت هذه الطمأنينة؟
من أهم أسباب الطمأنينة التي يملكها القادة: وجود معنى أو أحد أكبر حتى من ذواتهم يستقرون إليه ويركنون إليه ويلجأون إليه ويستعينون به، قال تعالى: }وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ{ (البقرة: 45)، فالصبر ينفد، والصبر له حدود ما لم يكن هناك مدد من رب الناس يزيد هذا الصبر ويثبته، هذه المعاني تعطي أصحابها من الطمأنينة ما يجعلهم يجمعون ما يبدو متفرقًا أو متضادًا.
كما أن من الأسباب التي تعين بعض الناس على هذه الطمأنينة وجود هدف أسمى لديه من شخصه كخدمة الناس، أو نصرة أمة، أو حماية مجتمع، فإذا اجتمع هذا السبب مع ما قبله كان الشخص في قمة الطمأنينة، وإلا تفجر الصراع داخله وتصارعت الأفكار في داخل نفسه، ومن هنا نشأت أمراض الأذكياء!!.
3- ضعف وقوة:
وبهذا يستطيع القادة أن يحولوا عناصر الضعف إلى قوة، وعناصر القوة إلى رفعة، يستطيعون استخدام كل صفة ومطلوب في مكانه، وكل رأي في مكانه، كما قال الأول:
مضر كوضع السيف في موضع الندى
|
|
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا
|
فجمعوا الخير من أطرافه، وحولوا أفكارهم إلى مشاريع، بطمأنينة وراحة وسعادة وقوة.