كيف تختار وسائل الإعلام الأفكار التي تسوقها؟
يمكن أن يعاد السؤال بطريقة أخرى هي: هل لوسائل الإعلام أن تختار الأفكار التي تسوقها، أم أنه يفرض عليها ما تسوقه برضاها أو بدونه؟
والحقيقة أنه ليس مستقلًا بحال من الأحوال أي شخص أو جهة يتلقى تمويله من آخرين، «فمن يدفع يطلب النغم الذي يريد»، كما أن طلبات السادة أوامر، فما على السيد إلا أن يأمر ليطيع العبيد!! وما على الغالب إلا أن يأمر لينفذ المغلوب، فإن عصى؛ فالعصا لمن عصى.
إذن فمالك والوسائل الإعلامية وممولوها والمهيمنون عليها هم من يحددون الأفكار التي تسوَّق في وسائل الإعلام، فمن هم يا ترى هؤلاء الذين قد لا نراهم، ولكنهم يحددون ما يصوغ عقول أفراد الأمة، ويتلاعب بها؟!
يمكن حصر من يختار الأفكار التي ينبغي ويجب أن تسوَّق في عالمنا في الفئات التالية:
الأنظمة السياسية العالمية (الإمبراطورية):
التي تمتلك أكبر (ترسانة) إعلامية، وتشكل هذه الترسانة الإعلامية أداة من أدوات الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية، سواءً كانت هذه الترسانة على شكل وكالات أنباء، أو مراكز إنتاج، أو بحوث، أو قنوات، أو صحف، أو إذاعات، أو وكالات إعلان..، أو غير ذلك.
هذه الترسانة تصبح بعد ذلك شركات عابرة للقارات، أو متعددة الجنسيات، فهذه نسخة عربية من حيث ألفاظها، ومن حيث مقدميها، أو كتابها، أو مذيعيها، ولكن تبقى الحقيقة والمضمون الفكري واحد لا يتغير ولا يتبدل، ينتهك الخصوصيات الثقافية، ويحطم أساسات المجتمع الثقافية، ويعتدي على عاداته الأصيلة؛ ليقدم لنا ثقافته وأفكاره ومبادئه وعاداته التي لا ينبغي الاعتراض عليها، و إلا؛ فأنت ولا شك متخلِّف من العصور الرجعية! أو إرهابيٌّ من المتطرفين! أو شاذٌّ من المخالفين! و إلا فلماذا لم تنخرط فيما يريده منك الأسياد؟!
- الأنظمة السياسية المحلية:
كثير من الأنظمة السياسية في العالم العربي والإسلامي تمنع ترخيص صحيفة، أو فتح قناة، أو التصريح لإذاعة، فلا يصح عندها أن يوجد منافسًا محليًّا للوسائل الإعلامية الحكومية، وتزداد المشكلة إذا علمنا أن هذه الوسائل لا تعبر إلا عن الرأي الرسمي، وتضيق ذرعًا بالرأي الأخر؛ فهي وسائل إقصائية في تعاملها مع الآراء المخالفة، هذا الرأي الواحد يُكرَّس لدعم النفوذ السياسي والفكري لهذه الأنظمة، وأي رأي آخر يعدل أو تعاد صياغته بما يساعد على تكريس الفكرة، فإن لم يمكن ذلك يلغى.
هذه السيطرة السياسية على الوسائل والمراكز الإعلامية جعلت المتلقي يعزف عن متابعة ما يقدم فيها؛ لأنه يعرف أن ما يقدم حتى لو كان حقيقة؛ فهي حقيقة متحيزة، أومن جهة واحدة، لا تعبر عن تطلعاته، ولا عن آماله؛ فهي لا تتوائم مع نبض الشارع بقدر ما تتوائم مع نبض النخب الحاكمة.
التجار الموالين للأنظمة السياسية:
لما شعرت الأنظمة السياسية العالمية والمحلية بنفور الناس من برامجها؛ لأنها لا حيادية، ولا تعطي شعورًا بالتنوع، وحرية الاختيار، والتعددية الإعلامية، كان لا بد لها من فتح مجالات تبدي أن هناك تعددية، وأن هناك حياد، ولكن يجب أن تبقى مع التيار، لا تخالف مضمونه، ولا تفسد إيقاعه بصوت يخالف النغمة، وتحقق مع ذلك كله للمتلقي حرية في اختيار القناة، أو الإذاعة، أو الصحيفة التي يريدها! وهي حرية للمتلقي أشبه ما تكون بحرية الاختيار الكاملة لشخص في الأكل من ما يشاء، ولكن لا يوجد إلا هذا الطبق من التمر ! هذا الولاء للأنظمة السياسية المحلية والعالمية يجعل التناغم كبيرًا بين المنتج والممول، والمشرف والمراقب بما يرضي جميع الأطراف، ويحقق أهدافها؛ إلا شخص واحد غير مهم أبدًا هو -للأسف- المتلقي!!