مسائل مهمة متعلقة بالموضوع
لدراسة الحكم الشرعي في تسويق فكرة معينة نحتاج إلى أن ندرس ثلاثة جوانب؛ وهي:
الجانب الأول: مضمون الفكرة.
الجانب الثاني: مآلات تسويقها.
الجانب الثالث: طريقة تسويقها.
مضمون الفكرة
حكم الأفكار في الشرع وتقسيماتها:
الحديث عن الحكم الشرعي على مضمون التسويق حديث ضيق الحدود؛ إذ الشرع المنزه جعل للعقل حريته، وأكثر الأحكام الشرعية في تسويق الأفكار إنما هي في مآلات الأمور، وفي وسائل التسويق، أما الحديث عن الفكرة من حيث موضوعها، أو صوابها وخطئها، أو من حيث أثرها في الواقع، أو مستوى المحاسبة عليها، فيمكن أن نجملها في الأمور الآتية:
من حيث موضوع الفكرة:
فيمكن أن يكون التفكير في الله -سبحانه وتعالى- وكنهه، أو في الغيبيات من جنة ونار، أو يكون في غير ذلك من آلاء الله وخلقه وأمره.
فعن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: «تفكروا في كل شيء، ولا تفكروا في ذات الله؛ فإن بين السماء السابعة إلى كرسيه سبعة آلاف نور، وهو فوق ذلك»، الأسماء والصفات للبيهقي.
فلا شك أن التفكير في الله وكنهه، أو تخيل صفته وكيفيته مما تعجز عنه العقول؛ فليس لله شبيه، أو سميٌّ، {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}[مريم:65]، {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير}[الشورى:11].
ومحاولة التفكير في مثل هذه الأمور محرَّم في الشرع، وغرور في العقل، والواجب الالتفات والتفكير في القضايا التي تنفع العبد، من التفكير في مخلوقات الله، وآلائه، وآثار خلقه، وفي الأمم السابقة، وفي أحداث الزمان، وما يتوقع في المستقبل، وما ينفعه في الدنيا والآخرة.
وهذا التفكير مأمور به شرعًا، يقول الله -عز وجل-: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيد}[سبأ:46].
ويقول -جل في علاه-: {كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُون}[البقرة:219]، فالتفكر والتفكير فيما ينفع المسلم في الدنيا والآخرة من الأمور المطلوبة، بل من الأمور المأمور بها الإنسان شرعًا، بخلاف التفكير في الله وكنهه -سبحانه وتعالى-.
من حيث صواب الفكرة وحسنها:
الأفكار على شطرين :
- إما أن تكون أفكارًا صائبة حسنة.
- وإما أن تكون خاطئة قبيحة.
وكل الناس يدَّعون صواب أخطائهم؛ حتى إنك تجد شخصين بفكرتين متعارضتين ومتناقضتين، وكل منهما يدَّعي الصواب.
لذا كان للشرع طريقة منضبطة في تقييم الأفكار، ومعرفة صوابها من خطئها، وهذه الطريقة تقوم على أساليب وطرق منضبطة بعيدة عن الأهواء والمزاجية والتشهي إلى الطريقة العلمية المنضبطة التي تحترم العقل وتقدره، وإن كانت تضع له ضوابط يتحرك فيها؛ حتى تُبعده عن الشطط والزيغ، وتنيره بنور الوحي، كما جاء بيان ذلك وتفصيلُه في الحديث عن مرجعية الأفكار الشرعية، والمرجعية غير الشرعية.
من حيث أثر الفكرة في الواقع:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله تجاوز لأمتي عمَّا وسوست -أو حدَّثت- به أنفسها، ما لم تعمل به أو تكلم». «صحيح البخاري».
وهذا فضل ومنٌّ من الكريم المتعال -سبحانه وتعالى-، إذ عفى عن مجرد حديث النفس ما لم تنقلَّب الفكرة إلى واقع له أثر، سواءً كان ذلك بالعمل أو بالكلام.
من حيث مستوى المحاسبة على الفكرة:
- هاجس: وهو ما يُلقى في النفس، ولا يستطيع المكلَّف دفعه، وهو معفو عنه بالإجماع.
- خاطرة: وهي جريان الهاجس في النفس.
- حديث نفس: وهو ما يقع في النفس من التردد: هل يفعل أم لا؟
وهذانِ -أيضًا- مرفوعانِ على الصحِيحِ؛ لِقولِهِ -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله تجاوز لأمتي عمَّا وسوست -أو حدَّثت- به أنفسها، ما لم تعمل به، أو تكلم». تقدم تخريجه.
فإذا عُفي عن حديث النفس: عُفي عن الخاطرة بطريق الأولى، واستثنى بعض أهل العلم إذا تعمَّدهما.
- هَمٌّ: وهو ترجيح قصد الفعل، فإن كان الفعل محرمًا: لم يؤاخذ عليه، وإن كان الفعل مأمورًا به: أثيب عليه؛ كرمًا منه -سبحانه-؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من هَمَّ بحسنة فلم يعملها: كتبت له حسنة، ومن هم بحسنة فعملها: كتبت له عشرًا إلى سبع مائة ضعف، ومن هَمَّ بسيئة فلم يعملها: لم تكتب، وإن عملها: كتبت». «صحيح مسلم».
- العزم: وهو قوة القصد والجزم به، وعقد القلب، وهو مما يؤاخذ به؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما؛ فالقاتل والمقتول في النار»، قيل: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟! قال: «إنه كان حريصاً على قتل صاحبه». متفق عليه.
الحكم من حيث المآلات والمقاصد:
وبعد الحديث عن حكم تسويق الأفكار من حيث الفكرة، نتحدث عن تسويق الأفكار من حيث المآلات والمقاصد؛ فالشريعة الغراء تهدف في كل أحكامها إلى جلب المصالح ودرء المفاسد، وأن الأمور بمقاصدها، والمقاصد هي الغايات التي تقصد من وراء الأفعال، والمقاصد على ضربين:
- المقاصد الشرعية: وهي المصالح التي قصدها الشارع بتشريع الأحكام.
- مقاصــد المكلَّـفـين: وهي الأفعال التي يتعلَّق الحكم بها لذاتها؛ إما لتضمنها المصلحة، أو المفسدة لذاتها، وإما لأنها تؤدي إليها مباشرة دون واسطة فعل آخر.
وتسويق الأفكار يعتمد اعتمادًا كبيرًا على المآلات والمقاصد، فالأفكار يُحكم عليها من حيث المقاصد (بنوعيها الاثنين المذكورين آنفًا)، وتُقبل الأفكار -أو تُرَدُّ- حسب تحقيقها للمصالح التي قصدها الشارع، وحسب مآلاتها، وما تُفضي إليه، ونظرًا لكون الأفكار لها صفة التجريد، وهذا يجعل الحكم عليها -من حيث المضمون- له حدودٌ ضيقة؛ إذ إن حرية الفكر في الإسلام كبيرة كما تقدَّم، ويرجع غالب الحكم على الأفكار: إلى مقاصد الشريعة، وإلى مآلات الأمور.
ويمكن دراسة المقاصد الشرعية لتسويق الفكرة، أو مآلات الأفكار من حيث:
- مآل تطبيق الفكرة.
- مآل تسلسل الفكرة.
- مآل تسويق الفكرة.
فقد تبدو الفكرة حسنة تجلب المصالح، ولكن عند تطبيقها ينتج عنها عددٌ من المفاسد التي نحن مأمورون بدرئها، والقاعدة الأصولية تقول: «درء المفاسد أولى من جلب المصالح»، وهو معنى يعتمد عليه أهل العلم. «الموافقات» للشاطبي.
وعلى سبيل المثال:
- قد تبدو هناك فكرة معينة، وهي نوع من الترتيب والضبط الإداري، ولكنها تأوَّل وتفسَّر بأنها أخذ لحقوق الناس أو إفسادهم، ومعلوم لدينا بأن حقوق الناس وصلاحهم أولى من الضبط الإداري المجرد، والضبط الإداري يمكن أن يتم بأفكار وأساليب أخرى.
- وقد تبدو الفكرة حسنة، ولكنها عند التسلسل تؤول لأفكار غير حسنة؛ ولذا رد بعض أهل العلم بعض الأقوال بناءً على أن لها لوازم مردودة، أو مآلات فكرية غير جيدة.
- وقد تبدو الفكرة حسنة -أو هي حقيقةً حسنة-، ولكن عند تسويقها: تعطي نتيجة أخرى، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن أراد من الصحابة أن يبشر الناس بفضل الله ورحمته: «لا تُبَشِّرهم فيتَّكِلُوا». متفق عليه.
إذًا فمتى كانت الفكرة السالمة من المفسدة وسيلةً للمفسدة مُنع منها، وتُسمَّى لدى الفقهاء: قاعدة سدِّ الذرائع.
والذرائع: هي المسائل التي ظاهرها مُباح، وتؤول بعد ذلك إلى محرَّم، وأصل سد الذرائع متفق عليه؛ فقد حرَّم الله الكفر، ونهى عن جميع وسائله وطرقه المؤدية إليه، قال -تعالى-: { فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا}[النساء:89] ، وقال: {لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولا}[الإسراء:22].
وكفَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قتل المنافقين في المدينة -مع كونها مصلحة-؛ لئلا يكون ذريعة إلى تنفير الناس عن الدين، وقولهم: «إنَّ محمد يقتل أصحابه»، وعند التفصيل.. فحكم سد الذرائع يكون على أحوال:
الحالة الأولى: إذا كان أداء الفكرة للمفسدة قطعيًّا، وهذا متَّفق على سدِّه ومنعه.
الحالة الثانية: إذا كان أداء الفكرة للمفسدة نادرًا، وهذا متَّفق على عدم منعه.
الحالة الثالثة: إذا كان أداء الفكرة للمفسدة ظنيًّا، وهذا اختلف فيه على قولين هما:
القول الأول: المنع، وهو الأرجح، وهو قول المالكية، والحنابلة، وآخرون، ورجَّحه الشاطبي، فقال: الظنُّ في أبواب العمليات جارِ مجرى العلم، وأن هناك ذرائع منعها الشرع داخلة في هذا القسم، وأن الأخذ بوسائل الفساد داخل في التعاون على الإثم والعدوان، وهو منهي عنه.
القول الثاني: عدم المنع: وذهب له بعض الشافعية، وآخرون، وأخذوا به تمسكًا بالأصل.
معرفة مقاصد الشريعة، والمصالح والمفاسد لتسويق الأفكار: (نظرات شرعية في المآلات):
كيف تعرف المقاصد الشرعية والمصالح والمفاسد لتسويق الأفكار؟
نعرف تلك المقاصد لمجتهدي الأمة بعدة أمور:
الأمر الأول: فهم مقاصد الشارع في النظر للنصوص وفق مقتضيات اللسان العربي.
الأمر الثاني: النظر في تعليل الأوامر والنواهي:
فالأمر لطلب الفعل، والآمر قاصد لفعله، والنهي لطلب الترك، والناهي قاصد إلى منع حصوله، فيجب احترام ظواهر النصوص، وعدم تعطيلها، كما يجب عدم التنكر للعلل، والمصالح الثابتة.
الأمر الثالث: ما كان خادمًا ومقويًا ومكملًا لمقصود الشارع؛ فهو مقصود للشارع، «فما لا يتم الواجب إلا به؛ فهو واجب»، و«الأمر بالشيء نهي عن ضده».
الأمر الرابع: سكوت الشارع عن قضية، مع أن موجبه المقتضي قائم:
فسكوت الشارع يدلُ على قصده أن لا يُزاد فيها ولا يُنقص، وهذا أوضح وأجلى في باب العبادات؛ سدًّا للذريعة، وحفظًا للدِّين من الابتداع، أما إذا لم يكن موجب البيان قائم، ولم تتوفر أسبابه ونوازله؛ فهذا ليس مقصودًا، وهو الذي لأجله فُتح باب الاجتهاد والقياس.
الأمر الخامس: الاستقراء:
فالشريعة مبنية على تعليل الأحكام من أجل رعاية مصالح العباد، واستقراء هذه العلل يبين مقاصد الشريعة، وتتم معرفة ما سبق بالنقل والعقل؛ فالنصوص مقدمة قائدة، والعقل تابع للنص، لا يمكن معرفة النص بدونه، ومجال العقل في ذلك كبير، يدل على احترام الإسلام للعقل البشري.
ويمكن توضيح أبرز مجالات العقل في دراسة المقاصد والمصالح والمفاسد بالنقاط التالية:
النقطة الأولى: فهم المصالح الموجودة في النصوص واستنباطها:
فالعقل هو الذي يقدِّر المصلحة التي يستهدف النص تحقيقها -إذا لم يكن مصرَّحًا بها طبعًا-، ثم تفسير النص بما يحقق هذه المصلحة، فكل دليل شرعي ثبت في الكتاب مطلقًا غير مقيد، ولم يجعل له قانون ولا ضابط؛ فهو راجع إلى أمر معقول، وُكِل إلى نظر المكلف.
النقطة الثانية: تقدير المصالح المتغيرة:
فمن المصالح ما يتغيَّر بتغير الأحوال والأزمان والأشخاص، ويغلب في جانب المعاملات المبنية على الأعراف، ورعاية المصالح، ودرء المفاسد.
ومن المصالح ما طبيعته الثبات وعدم التغير؛ مثل: العبادات، وأحكام الحدود، والجنايات، وكثير من أحكام الأسرة، وتقدير تغير المصالح، وإن كان يُبنى على العقل؛ إلا أنه يجب الحذر والانتباه فيه، فهو مرتقًى صعب، وباب لا يلجه من العلماء إلا المجتهد منهم.
النقطة الثالثة: تقدير المصالح المتعارضة:
فعند نظر المجتهد قد يحتاج إلى الترجيح بين المصالح أو المفاسد، عند تعارضها أو تزاحمها، فكثير من المصالح أو المفاسد نسبية أو إضافية، وقد وضع العلماء كثيرًا من القواعد التي تساعد على الترجيح عند إعمال العقل في مثل هذه المسائل؛ منها:
«درء المفاسد مقدم على جلب المصالح».
«تفوت أدنى المصلحتين لحفظ أعلاهما».
«المصلحة العامة تقدم على المصلحة الخاصة».
«الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف».
«يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام».
«الضرورات تبيح المحظورات».
«الضرورات تقدر بقدرها».. وغيرها من المسائل.
النقطة الرابعة: تقدير المصالح المرسلة:
وقد سبق الحديث عنها في مرجعية الأفكار، فهي مصالح ليس عليها دليل خاص، وإن كانت تدخل تحت مقاصد الشريعة، وعموميات أدلتها، فهذه -أيضًا- تحتاج إلى النظر العقلي، وإعمال الفكر.
كيف يحُكم على تسويق الفكرة بدراسة المآلات والمقاصد؟
يتم ذلك بالتسلسل التالي:
- مضمون الفكرة ووسيلتها في الشرع:
إن كان هناك نصٌّ على حكم الفكرة أو وسيلتها؛ فلا يجوز التقديم بين يدي الله ورسوله، فلا يقدم عقل، ولا عادة، ولا فهم، ولا عرف، ولا غيره ؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}[الحُجُرات:1]؛ أي: لا تقطعوا أمرًا وتجزموا به وتجرؤا على ارتكابه قبل أن يحكم الله -تعالى- ورسوله -صلى الله عليه وسلم- به، ويأذنا فيه. «روح المعاني» للألوسي.
- مآل الفكرة، ومآل وسيلتها بالنسبة لحال الزمان وأهله:
لقد وضع الفقهاء مسائل لا يجوز الفتيا بها، وإن كانت صحيحة في نظر الفقه، وكما قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: لما قيل له: لوددنا أنك ذكرتنا كل يوم؛ فقال عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه-: «أما إنه يمنعني من ذلك: أني أكره أن أُمِلَّكم، وإني أتخوَّلُكم بالموعظة كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتخوَّلنا بها في الأيام، مخافة السآمة علينا». متفق عليه.
- حدِّد على من تُعرض، هل للعموم أم للخصوص؟
فقد يكون عرضها على الخصوص لا يؤول لمفاسد، بينما عرضها على العموم يؤول لمفاسد، ولذلك فقد حدَّث النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قائلًا له -بعد أن قال له معاذ -رضي الله عنه-: أفلا أُبشِّرُ الناسَ؟ فقال له -صلى الله عليه وسلم-: «لا تُبَشِّرهم؛ فيتَّكِلُوا». متفق عليه .
ولذلك لم يُحدِّث به معاذ -رضي الله عنه- إلا لما أصبحت هناك مفسدة كبرى من عدم التحديث به؛ ألا وهي: الخوف من ضياع الحديث نهائيًّا.
- العرض على العقل:
فالشرع لا يأتي بما ترده العقول، أو بما تستحيله العقول، وإن كان قد يأتي بما تحار فيه العقول، فبقدر ما تشهد له العقول السليمة: بقدر قربه من الحق، وبقدر بعده عن عقول أصحاب الأهواء والضلال بقدر قربه للحق.
ولا شك: أنَّ أقرب العقول إلى الصواب هي العقول القريبة من الوحي، ومن النص الصحيح السليم، ولا شك: أن العقول البعيدة عن النص، وعن هدي السلف: هي العقول الأبعد عن التوفيق والسداد، ثم بعد ذلك: كلما حكم العقلَ منطقٌ أعلى وأعمق؛ كلما كان الرأي أسدَّ وأقوى، وكلما امتلك العقل مرونةً أكبر، وتجرُّد أكبر: كان أقرب إلى الصواب.
- حدِّد حُكمها الشرعي:
بعد النظر والتأمل يُمكن تحديد حكم تسويق هذه الفكرة لمن امتلك آلة الاجتهاد، فليس الاجتهاد نهبًا لكل أحد درس الفقه والشريعة، أو لم يدرس، سواء نظر في النصوص، أم ابتعد عنها وجفاها، بل هو خاصٌ لمن درس الشريعة، وعاش بين نصوصها، وفهم مقاصدها وأصولها، وأدرك من العربية ما يؤهله لفهم هذه النصوص الشرعية.
الحكم من حيث طريقة تسويقه
أحيانًا يكون تحريم تسويق فكرة ليس لمضمون وجوهر الفكرة، ولا للمآلات التي تؤول إليها، ولكن يحرم تسويقها؛ لأن الوسيلة المستخدمة لتسويقها محرمة في الشرع.
ولتوضيح هذه القضية: هناك عدة مسائل مهمة في أحكام الوسائل:
هل الوسائل توقيفية؟
بمعنى: أنه هل يجب أن ينص الشرع على اعتبارها وجوازها، أم يكفي السكوت عنها؟
وهل إذا كانت الغايات والمقاصد نبيلة يُغض الطرف عن وسيلة تسويقها؟
تكلم العلماء في المسألة، فقال بعضهم: توقيفية، وقال أكثرهم: إنها اجتهادية، ولتحرير محل الخلاف ينبغي تحديد معنى أن الوسائل توقيفية، فهل معناه: أن الوسائل يجب علينا أن نقيم الدليل عليها، سواءً كان نصًّا خاصًّا، أو عامًّا، أو قاعدة عامة.
أم أن المقصود: يجب أن يَرِدَ دليلٌ خاصٌّ يدلُ على جوازه، ولا مدخل للقياس أو الاجتهاد، فمن قال بأن الوسائل توقيفية بالمعنى الأول؛ بمعنى: أن حق التشريع لله وحده، أو بمعنى: أنه لا يجوز مباشرة وسيلة إلا بعد معرفة حكمها، أو أن الوسائل يجب أن تكون منضبطة بالشرع، فهذا حقٌّ، ولا شك فيه، وعليه يحمل من قال بأنها توقيفية.
ومن قال بأنها توقيفية؛ بمعنى: أنه يجب أن يرد فيها دليلٌ خاص للجواز، فهذا إما أن يكون في الوسائل التي هي من جنس العبادات؛ فهذا -أيضًا- حقٌّ؛ فهي توقيفية.
وإما أن يكون في المعاملات والعادات؛ فإطلاق القول بأنها توقيفية في مثل هذا لا يصح البتة؛ فالأصل في العبادات المنع حتى يرد الدليل، بينما في العادات والمعاملات الأصل الإباحة حتى يرد الدليل بخلافه.
ولا شك أن وسائل تسويق الأفكار من وسائل العادات التي الأصل فيها الحل والعفو، حتى يثبت خلاف ذلك، ولا يقال: إن المباشرين للوسيلة يقصدون التعبد إذا كان تسويق الأفكار من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على اعتبار أن الوسائل لها أحكام المقاصد، فتكون عبادة، فهنا يجب أن يأتي فيها دليل نصيٌّ خاص، إذ إن المباشر للوسيلة لا يتعبَّد بالوسيلة بقدر ما يتعبد بالوصول إلى معنى مشروع؛ مثل: تأليف القلوب، أو تقريب المعنى للأذهان.
فهذه الوسيلة ليست عبادة في نفسها، وغير منهيٍّ عنها، بل هي مطلوبة شرعًا، وتؤدي إلى تحقيق مقاصد الشرع، ويُثاب المكلَّف على قصده ونيَّته.
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «وفي بضع أحدكم صدقة»، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدُنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام؛ أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال: كان له أجر». «صحيح مسلم».
والوسائل -من حيث اعتبار الشرع وعدمه- تنقسم إلى ثلاثة أقسام؛ وهي:
- وسائل معتبرة: وهي التي نص الشرع على اعتبارها.
- وسائل ملغاة: وهي التي نص الشرع على إلغائها.
- وسائل مسكوت عنها: فلم ينص الشرع على إلغائها ولا إثباتها.
وسيأتي الكلام بالتفصيل عن هذه الأقسام الثلاث، ولكن بعد أن نتحدث عن معنى كون الوسائل لها أحكام المقاصد؟ وعن موضوع هل الغاية تبرر الوسيلة؟
الوسائل لها أحكام المقاصد:
ونعني بالقاعدة: أن الأفعال التي تؤدي إلى مصالح يختلف حكمها باختلاف أحكام المقاصد، فإن كان المقصود واجبًا؛ فوسيلته واجبه.. وهكذا، والحكم هنا أغلبي قد يستثنى منه بالنظر للمقاصد.
ولا شك أن وسائل المنهيات تأخذ حكمها بدليل الاستقراء والتلازم، واختلف أهل العلم في المأمورات والمباحات، والأكثر على إطلاق القاعدة في المنهيات، وفي المأمورات والمباحات.
والصحيح: أنه إذا توقف حصول المقصود على وسيلة؛ فهي تأخذ حكمه، أما إذا لم يتوقف الوصول للمقصود على وسيلة معينة، بل هناك عدة طرق توصل إليه، وكان حكم المقصود واجبًا؛ فأحد الطرق واجبة بدون تعيين، وبهذا تجتمع الأقوال، وينتفي الخلاف في المسألة -إن شاء الله-.
هل الغاية تبرر الوسيلة:
مقولة شائعة على ألسنة كثيرٍ من الناس، وإن كانت مذمومة في الشرائع والأعراف والأخلاق، فهل يجوز لمن أراد الغنى السرقة؟! ولمن أراد السلطان القتل؟! ولمن أراد الدعوة الكذب؟! وتُسمَّى هذه المقالة النظرية الميكافيلية نسبة إلى الفيلسوف الإيطالي (نقولا مكيافيلي)، وإن كان ليس أول من قال بها، وإنما نُسبت إليه؛ لأنه ألَّف كتاب (الأمير)، وقدَّمه هدية للأمير (لورنزو)، وحاول أن يُقرِّر هذه المقولة ويجعلها حقًّا.
وقد قوبل الكتاب بالرفض والاستنكار من المفكرين، بل بقرارات الإحراق والمنع، ثم عادت بعد ذلك السياسات الغربية تقوم على تعاليم الكتاب من جديد، وبينما كان ملعونًا، أصبح مشهورًا!! حتى سموه (مؤسس علم السياسة الحديث)، وسمو كتابه: (كتاب السياسة لكل العصور).
ولا شك: أن الإسلام يرفض هذه النظرية الفاسدة، ويوجب على الإنسان مشروعية الوسائل؛ فمن راعى مقاصد الشرع دون وسائله؛ فقد أخذ ببعض الدين، وترك بعضه، ومخالفة الشرع في باب الوسائل كمخالفته في باب المقاصد، والله -جل وعلا- يقول: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا }[النور:63].
الوسائل من حيث اعتبار الشرع لها أو عدمه، أقسام:
القسم الأول: وسائل معتبرة:
وهي التي نص الشارع على اعتبارها، ومنها في تسويق الأفكار ما يلي:
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[آل عمران:110].
- الجدل بالتي هي أحسن والمناظرة:
{ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل:125].
- الموعظة الحسنة: {بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ }[النحل:125].
- القصص: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون}[الأعراف:176].
- السؤال والجواب:
كما في قصة موسى -عليه السلام- مع الخضر: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}[الكهف:66].
- التشبيهات والأمثلة:
{وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُون}[العنكبوت:43].
- القدوة والأسوة:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].
- وغيرها، وهي كثيرة جدًّا، وما ذكرنا ما هو إلا مجرد مثال عليها لا غير.
القسم الثاني: وسائل ملغاة:
وهي التي نصَّ الشرع على إلغائها، كالكذب والخداع، ولا يجوز مباشرتها ولا فعلها، إلا في حدود القيود الشرعية لقاعدة (الضرورات تبيح المحظورات)، وهذه القيود خمسة:
- أولًا: أن تكون الضرورة حقيقية لا متوهمة، بحيث لا يمكن الخلاص من الضرورة إلا بالوسيلة الممنوعة.
- ثانيًا: أن لا يؤدي الأخذ بها إلى ضرر أكبر، فالقاعدة تقول: (يتحمل الضرر الأخف لدفع الضرر الأكبر).
- ثالثًا: ألا يؤدي رفع الضرورة إلى إلحاقها بالغير، فالضرورة لا تسقط حقوق الآخرين.
- رابعًا: أن يباشر الوسيلة الممنوعة بالقدر الذي تندفع به الضرورة، بدون توسع فـ(الضرورة تقدر بقدرها).
-خامسًا: بذل الجهد للخروج من حالة الضرورة، وذلك بالعمل لتحصيل الوسائل المشروعة.
ويختلف إباحة الوسيلة الممنوعة عن الغاية التي تبرر الوسيلة من عدة أوجه:
- الوجه الأول: عند الضرورة؛ فإنَّ المحرِّم والمبيح في الإسلام هو الشارع الحكيم، بخلاف تبرير الوسيلة بالغاية، فالمحلل والمبيح هو الأهواء والمصالح الشخصية.
- الوجه الثاني: أن الغاية التي تبرر الوسيلة الممنوعة في حالة الضرورة غاية محمودة، ومصلحة حقيقية.
- الوجه الثالث: الترخيص عند الضرورة مقيد بقيود تجعل دائرة الضرورة ضيقة، وليست عامة في كل شيء.
القسم الثالث: وسائل مسكوت عنها:
وهذه غالبية الوسائل، فلم ينص الشرع على إلغائها ولا إثباتها، مثل كثير من الوسائل والأساليب الحديثة، مثل وسائل الإعلام، وكثير من وسائل الدعوة، وغير ذلك، وهي أكثر من أن تحصى وتتجدد يوميًّا وتبتكر، وقد تحدثنا عن حكمها باستفاضة عند الحديث عن موضوع (هل الوسائل توقيفية أم اجتهادية)؛ فليراجع.