تقوم السياسة كغيرها من أمور الحياة على رؤى من يقوم بها؛ كرؤيته للحياة، والكون، والإنسان، والطبيعة، هذه الرؤى تُشكل خلفيات فكرية، وأصول منهجيّة، ومصادر نظريَّة، لا يستطيعُ السياسي أن يتجاوز حدودها، أو يخرج من بوتقتها.
ومن أخطر قضايا تسويق السياسة للأفكار: هو التسويق المرتبط بالثقافات والأصول الفكريَّة والمصادر المنهجيَّة، ولأن السَّاسة كغيرهم من البشر لا يستطيعون أن ينفكوا عن هذه الثقافات والأصول والخلفيات؛ فهم يُسوِّقون ثقافتهم وخلفيّاتهم ورؤاهم وأفكارهم بوعيٍ منهم غالبًا، وأحيانًا بدون وعيٍ منهم، وتقوم ممارساتهم السياسية على تسويق هذه الثقافات والأفكار في كل الممارسات السياسية، بل وفي روح هذه الممارسات وفي تفاصيلها، بل وحتى احتكار التفكير في هذه الثقافات، ومنع معاقبة التفكير بغير هذه الطريقة.
من أخطر ما تقوم به الممارسات السياسية العالمية هو تسويق مفاهيم معينة للناس، يتشكل على أساسها نظرتهم للواقع؛ لأن الكلمات والمفاهيم تشكل إطارًا للمعنى تُفهم الحقائق على ضوئه، وبالتالي تشكل عقولهم بشعورٍ أو بدون شعور منهم، فعلى سبيل المثال انظر للمفهومين السياسيين التاليين:
التنمية السياسية:
مفهوم التنمية حسب ما تفرضه السياسة العالمية والممارسة السياسية؛ هو: عملية تغيير اجتماعي متعدد الجوانب، غايته وهدفه هو الوصول إلى مستوى الدول الصناعية، فالتنمية السياسية مقدمة للتنمية الاقتصادية، وجوهرها يتمركز حول تزايد معدلات التباين، والتخصص في الأبنية السياسية، وتزايد علمانية الثقافة السياسية من خلال نُظم تعدُّدية تُشبه الأنظمة الغربية في وسائلها ومؤسساتها وأهدافها وتنظيمها، فهو إذًا مفهوم يُرسِّخ التبعية، وينطلق من المفهوم الغربي البحت الذي يعيش للدنيا، ويموت من أجلها، وينسى أو يتناسى الدار الآخرة، بل قد يرى موازين الآخرة شيئًا من التخلف الذي ينبغي على التنمية السياسية تجاوزه .
التخلُّف:
وهو الوجه الآخر لمفهوم التنمية الذي يُعبر عنه ويقصد به العالم غير الغربي الذي لم ينمو ليلحق بالمجتمعات الغربية بزعمهم، ويكتسب من صفاتها وسماتها، فمن معاني التخلُّف التي تسوَّق بالممارسات السياسية: التخلُّف عن خصائص المجتمعات الغربية وسماتها، أو سيادة ثقافة غير علمانية، أو ارتفاع معدلات النمو السكاني، أو سيطرة أنماط سلوكية مناقضة لسلوكيات المجتمع الحديث!! مثل: الإيمان بالغيب، وسيادة الثقافة الدينية، وسيطرة نمط العائلة الممتدة،.. وغيرها. نصر محمد عارف، نظريات التنمية السياسية،
ولا يزال الساسة في الغرب يُصرُّون على أن من مظاهر التخلُّف في العالم الإسلامي (الشرق الأوسط) مظاهر الحشمة والستر والعفاف الذي يمثله الحجاب الإسلامي الشرعي!! كما أن مظاهر التطور والنمو والازدهار بزعمهم تتمثل في المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، ومنع تعدُّد الزوجات، ولو آل ذلك لتعدد الخليلات والعشيقات {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً}[الفرقان:44].
ممارسات سياسية (نماذج تاريخية):
وسنذكر هنا نموذجين فقط لارتباط التسويق بالسياسة، وارتباط السياسة بتسويق الأفكار في حقبة واحدة من الزمن، وهي فترة الحروب الصليبية، ثم تحرير المسجد الأقصى من أيدي الصليبيين.
النموذج الأول: تسويق الحروب الصليبية:
والذي أثار ذلك هو شخص يُدعى (بُطرس الناسك) الراهب الفرنسي الأصل، وكان رجلًا قصير القامة، أسمر اللون، يمشى حافي القدمين، مرتديًا ملابس رثة، جاء لزيارة (بيت المقدس)، وزعم أنه أسيئت معاملته مع غيره من الزوّار، وفور عودته إلى بلاده، مر بروما وقابل البابا (أوربان الثاني)، ودعاه إلى إنقاذ الأماكن المقدسة، ثم أخذ يجوب (ألمانيا)، و(فرنسا)، و(بلجيكا) محرِّضًا الجماهير في خطبه على الزحف لإنقاذ (قبر المسيح)؛ فكان لتلك الخُطب النارية التي سحرت ألباب الناس ببيانه الساحر وفصاحته، حتى تجمع حوله أعداد هائلة من الأتباع، بلغوا خمسة عشر ألفًا، منهم فلاحون وأهل مدن، وفئات من صغار النبلاء، وبعض المجرمين وقطاع الطرق، ولم يكن يجمع هؤلاء الشراذم إلا الحماسة والرغبة في قتال المسلمين، والاستيلاء على الأرض.
وكانت أولى ثمار هذا التحرك: انعقاد مؤتمر (كليرمونت) في تشرين الثاني 1095م برئاسة البابا، وكان له تأثير كبير في الدعوة للحروب الصليبية ورعايتها، فعمل على المقاربة وإزالة الخلاف بين الكنيستين الشرقية (البيزنطية) والغربية (اللاتينية)؛ إذ رفع قرار الحرمان الذي كان موقعًا من الإمبراطور البيزنطي.
كما أعطى هذا البابا توجيهاته للأمراء ورجال الدين وكبار التجار الإيطاليين المشاركين في (مجمع كلير مونت) بأن يضع كل محارب صليبًا من القماش الأحمر على ردائه الخارجي، رمزًا للفكرة التي خرج ليحارب من أجلها، وكان قد تم تحديد سنة 1097 م موعدًا للحملة الصليبية الأولى.
النموذج الثاني: تسويق قضية تحرير المسجد الأقصى من الصليبيين:
تم هذا التسويق بفريق متميز بطلاه؛ هما: (نور الدين محمود زنكي)، الملقب بـ (الشهيد) الذي لم يُعرف بعد (عمر بن عبد العزيز) أمير كان مثله في عدله وتقواه وزهده وشجاعته وحسن سيرته في الناس، ثم (صلاح الدين الأيوبي) -رحم الله الجميع-، وأيضًا هناك مجموعة كبيرة من العلماء الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
تولَّى (نور الدين محمود زنكي) الحكم في زمن كان الصليبيون يُسيطرون على أجزاء كبيرة من الشام بالإضافة إلى المسجد الأقصى، وفي زمنٍ كان التشرذم والتفرق والدويلات الصغيرة سمته، بل استعان كثير منهم بالفرنج الصليبيين ضد إخوانهم من المسلمين، فماذا فعل هذا الفريق المبارك..؟!
يمكن لنا أن نلخص ما فعلاه من أجل تحرير المسجد الأقصى في نقاط سريعة من أهمِّها:
1- تربية الناس على الإسلام وعلى الجهاد:
فقد كانا -أي: نور الدين زنكي، وصلاح الدين الأيوبي- يُكرمان العلماء، بل كانا يجلسان للعلم، ويبنيان دوره، ويُوقفون لها الأوقاف، بالإضافة لمحاربتهما للدعوات الباطنية التي تُفرِّق الأمة، بل كانت جيوشهم مليئةً بالعلماء الذين يجلسون يُذكِّرون الناس بفضل الجهاد، ويُحمسونهم له، حتى كثُر المتطوعون لقتال الصليبيين، وفي مقدمتهم العلماء الصادقون المخلصون الذين يتسابقون للمعارك، ويتعاهدون على الموت في سبيل الله؛ لأنهم قدوة لغيرهم، والقدوة عندما يكون في مقدمة الصف يزرع عند البقية الحماس والشجاعة والثبات، ويزيل عنهم الخوف والهلع والتولي.
2- إقامة مجتمع عادل:
العدل أساس الحكم، لذلك أقاما مجتمعًا يأخذ الناس فيه حقوقهم، حتى إن (نور الدين محمود زنكي) جلس يومًا في مجلس القضاء يختصم مع شخص أمام القاضي، وكان يعزل من ولاته الظلمة، ولم يكن له راتب أو مكافئة، وإنما كانت له دور، فكان يتعيش من دخلها.
3- توحيد الأمة:
التفرق صفة مذمومة ومشينة وسيئة، لولا التفرق لأصبحنا في خير وعافية ونعمة من الله، فتوحيد الصف والكلمة مما يعين على تكاتف الجهود، وترابط القلوب، وتزايد الهمم، ومن ثم هزيمة الأعداء مهما كانت قوَّتُهم وعددهم وعتادهم، ولذلك فقد كانا يحرصان على الوحدة مع الدويلات القريبة إلا إذا تعاونوا مع الصليبيين، أو تحالفوا معهم، كما كانا يتحالفان مع غيرهم في حرب الصليبيين.
4- إعداد العُدَّة:
أمر الله بإعداد العدة؛ فقال -سبحانه-: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُون}[الأنفال:60].
ولذا وقفوا الأوقاف للجهاد في سبيل الله، وطوروا في تصنيع الأسلحة، وأنفقوا على هذا التصنيع، وألفوا فيه الكتب، وحسنوا في إدارة الجيش بكل فئاته الجند المتفرغون والمتطوعون وجند الأمراء الذين يستدعون وقت الحرب فقط، وكان يرشح من كل المناطق خيرة الفرسان للجهاد في سبيل الله.
5- ممارسات معاصرة:
هناك ممارسات سياسية متنوعة لتسويق أي فكرة تُمارس بشكل كبير في العالم السياسي المعاصر، وهي كثيرة جدًا، نذكر منها :
- التُّهم المعلَّبة: وهي تهم جاهزة لا يحتاج أكثر من ذكرها فقط لتسويق فكرة معينة، فيكفي مثلًا القول بأنه إرهابي، أو متخلف، أو رجعي؛ للتحذير من أي فكر معادي ومنافس.
- حماية حقوق الإنسان والحرية.
- المواثيق الدولية.
- الأمن الوقائي.
أقوال الساسة الأمريكان:
- (السيد الرئيس، أعضاء الكونجرس، المواطنون الأمريكيون، أود بكل اعتزاز أن أقول لكم: إن حال الاتحاد المسيحي اليهودي الأبيض والثري قوية تمامًا، ولم يحدث أبدًا في تاريخنا أن كانت القوة الأمريكية والهيمنة الأمريكية والقيم الأمريكية قوية ومهابة ومحترمة ومقبولة في العالم كما هي اليوم. إن أمامنا طريق طويل ينبغي أن نسيره في العديد من الدول العربية والإسلامية، ولن نتوقف إلى أن يصبح كل عربي ومسلم مجردًا من السلاح، وحليق الوجه، وغير متدين، ومسالمًا ومحبًّا لأمريكا، ولا يغطي وجه امرأته نقاب!! لقد حان الوقت لتعيد تشكيل العالم ليصبح على صورتنا، وبفضل إلهنا سنقوم نحن شعوب العالم من الجنس الأبيض المتحضر بفرض معتقداتنا الرزينة والودودة والتحررية على عالم جائع لأموالنا ورسالتنا..! ولن يخضع النساء لشرط تغطية وجوههن وأجسادهن.. ومن الآن فصاعدًا يحق للعالم تناول الخمر والتدخين، وممارسة الجنس السوي).
جورج بوش في خطاب أمام الكونجرس في 29/1/2002م.
- (إن الولايات المتحدة تعتبر نفسها قوة تحرير تكرس جهودها لإحلال الديموقراطية ومسيرة الحرية في العالم الإسلامي، وإن النضال من أجل القيم الليبرالية الأمريكية يجب ألا يتوقف عند حدود الإسلام، وإن التفوق الأمريكي في القطاع العسكري يفرض مسؤوليات لتأمين محيط آمن تزدهر فيه بعض القيم).
كوندوليزا رايس، مستشارة الرئيس للأمن القومي سابقًا.