حتى لو أحبك بعض الناس لذاتك، ورجوك لجميل صفاتك، وأخلاقك يبقى كثير من الناس يُقيِّمُك على مقدار المنافع التي تقدمها للناس، ومقدار الخدمات التي سيستفيدها هو أو غيره منك، فكثير من الناس يركز على مقدار نفعك وخدمتك للناس، ومعه جانب كبير من الحق.
إنَّ جوهر الشخص ومعدنه كلما كان جيدًا يظهر ذلك في ممارساته وخدماته مع الناس، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((خير الناس أنفعهم للناس))، و: ((الخلق كلهم عيال الله، فأحب خلقه إليه: أنفعهم لعياله)).
وهذا المستوى لا ينفصل كثيرًا عن المستوى الأول، بل إنَّه في الحقيقة جزء منه لا ينفك عنه، ومن أهم الصفات المرتبطة بهذا المستوى: الشجاعة، والكرم، وبالشجاعة والكرم -في سبيل الله- فَضَّل الله السابقين، قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير}[الحديد:10].
ولذا لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم بني سلمة عن سيدهم، فقالوا: الجد بن قيس على أنَّه نزنه بالبخل، فقال: ((وأي داء أدوأ من البخل؟))، وفي رواية: ((إنَّ السيد لا يكون بخيلًا)).
ولما سأل صلى الله عليه وسلم الأعرابُ حتى اضطروه إلى سمرة فتعلقت بردائه، فالتفت إليهم، وقال: ((والذي نفسي بيده، لو أنَّ عندي عدد هذه العضاة نعمًا؛ لقسمته عليكم، ثم لا تجدوني بخيلًا، ولا جبانًا، ولا كذوبًا)).
ومن روائع ما قال ابن قيم الجوزية عن الكرم والشجاعة: ((فإنَّ الإحسان المتوقع من العبد إما بماله، وإما ببدنه؛ فالبخيل مانع لنفع ماله، والجبان مانع لنفع بدنه، والمشهور عند الناس: أنَّ البخل مستلزم الجبن من غير عكس؛ لأنَّ من بخل بماله؛ فهو بنفسه أبخل، والشجاعة تستلزم الكرم من غير عكس؛ لأن من جاد بنفسه فهو بماله أسمح وأجود، وهذا الذي قالوه ليس بلازم أكثره، فإنَّ الشجاعة والكرم وأضدادهما أخلاق وغرائز قد تُجمع في الرجل، وقد يُعطى بعضها دونَ بعض، وقد شاهد الناس من أهل الإقدام والشجاعة والبأس من هو أبخل الناس! وهذا كثيرًا ما يوجد في أمة الترك؛ يكون أشجعَ من ليث، وأبخل من كلب، فالرجل قد يسمح بنفسه ويضنُّ بماله؛ ولهذا يقاتل عليه حتى يُقتل، فيبدأ بنفسه دونه، ومن الناس من يسمح بنفسه وماله، ومنهم من يبخل بنفسه، ومنهم من يسمح بماله ويبخل بنفسه، وعكسه، والأقسام الأربعة موجودة في الناس)). ا.هـ.
فمتى اجتمع في شخص الشجاعة والكرم كان نفعه، وخدمته، وإحسانه للناس من تمام الإحسان وأحسنه.