يتكرر الصراع، ولا تنتهي السجالات بين طرفين، بل عالمين مختلفين هما: عالم الفكر ومفكريه، وعالم المشاريع والفعل وأبطاله، مفكرون في عالم الفكر يعتقدون أن الفكر أصل كل مشروع، وأصل كل حركة في الحياة، بل وأصل الأعمال، ومحرك الشعوب والمؤسسات والأفراد، وعمليون يعتقدون أن الحركة والفعل هما كل شيء تقريبًا، فالفعل والعمل وعرق الجبين والتعب هي الأشياء التي تحدث فرقًا في الحياة، وتغيرًا في الدنيا على مستوى الشعوب والمؤسسات والأفراد.
مرت على البشرية حضارات كانت تمجد الفكر وتجلياته وآفاقه وحركته، ومرت على البشرية حضارات كانت تمجد الفعل والحركة وآثارها ومبانيها وساحاتها، وبقيت لكل حضارة منتجاتها الفكرية أو العملية، وبقي معها النقاش والحوار، أيهما أفضل؟ وأيهما أخطر؟ وأيهما أكثر تأثيرًا؟
وبقي مع ذلك كله عالمان منفصلان أغلب الوقت.
ومع كل ذلك، لاينكر احد ان الأعمال والمشاريع العملية تقوم في الماضي والحاضر على أعمال فكرية، وإلا كانت ضربا من العبث، والأخطر من ذلك أننا – أحيانًا - ننسى أو لا ننتبه إلى أن القادة في كل من العالمين لم يكونوا قادة ولا سادة إلا بقدرتهم على الخروج من عالمهم والوصول إلى العالم الثاني، أي كانوا وصلة مهمة بين عالمين.
ولتوضيح ذلك أكثر نقول: إن الفكرة - أية فكرة - تكتسب قيمتها من مدى قابليتها للتطبيق، ولا يعد هذا قيدًا على انطلاق خيال المبدع، أو سقفًا يحد من تحليقه في فضاء النظرية، لكنه تنبيه لضرورة أن يُراعى في مرحلة التخطيط النظري أن تحتوي الفكرة على مقومات نجاحها؛ كي تتمكن من عبورها من عالم الفكر إلى عالم التطبيق الفعلي.
ونظريًّا، تبدو هناك شعرة رقيقة فاصلة بين الفكرة وتنفيذها، بل كثيرون ربما لا يعترفون بذلك الخط الفاصل بين التخطيط النظري والتطبيق العملي لفكرة مشروع ما، إنما يرونه تطورًا طبيعيًّا وتلقائيًّا للغاية، باعتبار أن واضع المهاد النظري للفكرة يسهل عليه تطبيقها - كأمر بديهي-، لكن في واقع الحال يبدو أن العبور بين العالمين -عالم الفكرة، وعالم التطبيق - والجمع بينهما أمر لا يتوفر لكل أحد، بل لا يتوفر إلا لأعداد محدودة.