قال تعالى: {فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}[النجم:32] , قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلا}[النساء:49]، وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ((لا تزكوا أنفسكم؛ إنَّ اللّه أعلم بأهل البر منكم)).
قال النووي : اعلم أنَّ ذِكْرَ محاسن النفس ضربان: مذموم ومحبوب؛ فالمذمومُ: أن يَذكرَه للافتخار، وإظهار الارتفاع، والتميّز على الأقران، وشبه ذلك، والمحبوبُ: أن يكونَ فيه مصلحة دينية، وذلك بأن يكون آمرًا بمعروف، أو ناهيًا عن منكر، أو ناصحًا، أو مشيرًا، بمصلحة أو معلمًا، أو مؤدبًا، أو واعظًا، أو مُذكِّرًا، أو مُصلحًا بين اثنين، أو يَدفعُ عن نفسه شرًّا، أو نحو ذلك، فيذكر محاسنَه، ناويًا بذلك أن يكون هذا أقربَ إلى قَبول قوله، واعتمادِ ما يذكُره، أو أن هذا الكلام الذي يقوله لا تجدونه عند غيره، فاحتفظوا به أو نحو ذلك.
وقد جاء في هذا المعنى ما لا يحصى من النصوص؛ كقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((أنا النَّبِي لا كَذِبْ))، وقوله صلى الله عليه وسلم مُتحدِّثًا بنعمة ربه عليه: ((أنا سَيِّدُ وَلَد آدَم يوم القيامة، وأول من ينشَّق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع))، وقوله صلى الله عليه وسلم في موضع آخر: ((قد علمتم أنَّي أتقاكم لله، وأصدقكم، وأبركم))، وقوله صلى الله عليه وسلم في موضع ثالث: ((أنا أتقاكم لله، وأعلمكم بحدود الله))، وفي حديث صيام الوصال: ((إنَّي أبِيتُ يطعمني ربي ويسقيني))، وأشباهه كثيرة.
وقال يوسف -عليه السلام-: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيم}[يوسف:55]، وقال شعيب -عليه السلام-: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِين}[القصص:27]، وقال عثمان -رضي الله عنه- حين حُصِرَ: ألستم تعلمون أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (( مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ العُسْرَةِ فَلَهُ الجَنَّةُ)) فجهّزتها؟ ألستم تعلمونَ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ حَفَرَ بِئرَ رُومَة؛ فَلَهُ الجَنَّةُ)) فحفرتها؟ فصدّقوه بما قاله.
وعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أنَّه قال حين شكاه أهل الكوفة إلى عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- وقالوا: لا يُحسن يصلي، فقال سعد: والله إنّي لأول رجل من العرب رمى بسهم في سبيل الله.
وعن عليّ -رضي اللّه عنه- قال: والذي فلق الحبَّة وبرأَ النسمةَ إنَّه لعهدُ النبيّ صلى الله عليه وسلم إليّ: ((أنَّه لا يحبني إلا مؤمنٌ، ولا يبغضني إلا منافق)).
وعن أبي وائل قال: ((خطَّبنا ابنُ مسعود- رضي الله عنه- فقال: والله لقد أخذتُ من فِيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعًا وسبعين سورة، ولقد علمَ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّي مِنْ أعلمهم بكتاب الله تعالى، وما أنا بخيرهم، ولو أعلم أنَّ أحدًا أعلمُ مني؛ لرحلتُ إليه)).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أنَّه سئل عن البدنة إذا أزحفت؟ فقال: ((على الخبير سقطْتَ)) -يعني: نفسَه-.
ونظائر هذا كثيرة لا تنحصر، وكلُّها محمولة على ما ذكرنا، والله أعلم.
قال القرطبي : يقتضي الغض من المزكي لنفسه بلسانه، والإعلام بأنَّ الزاكي المُزكَّى من حسنت أفعاله، وزكاه الله -عز وجل-؛ فلا عبرة بتزكية الإنسان نفسه، وإنَّما العبرة بتزكية الله له، فقد دل الكتاب والسنة على المنع من تزكية الإنسان نفسه، ويجري هذا المجرى ما قد كثر في هذه الديار المصرية من نعتهم أنفسهم بالنعوت التي تقتضي التزكية؛ كزكي الدين، ومحيي الدين، وما أشبه ذلك، لكن لما كثرت قبائح المُسَمَّيْن بهذه الأسماء ظهر تخلف هذه النعوت عن أصلها؛ فصارت لا تُفيد شيئًا، وقال: فقال يوسف -عليه السلام-: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيم}[يوسف:55]، مدح نفسه، ويجوز (ذلك) للرجل إذا جُهل أمره للحاجة، وذَكَرَ أنَّه حفيظ أي؛ خازن أمين، عليم ذو علم وبصيرة بما يتولاه، ودلت الآية أيضًا على أنَّه يجوز للإنسان أن يصف نفسه بما فيه من علم وفضل.
قال الماوردي: وليس هذا على الإطلاق في عموم الصفات، ولكنَّه مخصوص فيما اقترن بوصله، أو تعلق بظاهر من مكسب، وممنوع منه فيما سواه، لما فيه من تزكية ومراءاة، ولو ميَّزَهُ الفاضل عنه لكان أليق بفضله؛ فإنَّ يوسف دعته الضرورة إليه لِمَا سبق من حاله، ولِمَا يرجو من الظَّفَر بأهله. اهـ