إن الاهتمامات الاستهلاكية سواء للسلع أو للخدمات ذات نزعة عميقة الجذور في مصر الفرعونية، تشهد آثارها الماثلة في ترف نخبتها من الفراعنة والكهنة الذين كانت عوالمهم تموج بالذهب، والعطور، والقصور، والمعابد، ومقتنيات المرمر، والخشب المجلوب من وراء البحار.
وأيضًا مثل هذه النزعة الاستهلاكية نجدها في حضارة بلاد الرافدين، وعند الرومان والإغريق القدماء، فالنزعة الاستهلاكية قديمة؛ فعند الإغريق تباهي بركليس الأثيني بوفرة السلع المجلوبة من مناطق البحر المتوسط، وكذلك عند الرومان كان الاستمتاع بلبس الثياب الفضفاضة المصنوعة من الحرير المستورد من الصين، ثم تطورت هذه النزعة عبر الحضارات المختلفة، فمثلا في وقت مبكر من القرن السادس عشر ازداد الإنفاق على الأثاث المنزلي لدى الناس الذين يعيشون فوق خط الفقر في الغرب الأوروبي، وكان شراء زهور الخزامي المستوردة من آسيا هواية أصيلة لهم في القرن السابع عشر، خاصة لدى الهولنديين التي صارت مزرعة للزهور، فالنزعة الاستهلاكية نزعة بعيدة الجذور؛ لأنها مكون طبيعي في النفسية البشرية التوَّاقة لتوسيع رقعة رغباتها في الاقتناء والتمتع الذي استشرى في الأزمنة الأحدث مع التطورات الثقافية، وتطور طرق التسويق والإعلان والاتصال الحديثة، وتبدلت الأوضاع الاجتماعية، ثم مع عبورها المحيط الأطلنطي: تحولت لعدوى تلقتها الولايات المتحدة من القارة الأوروبية مقلدة في البداية، ثم لاعبًا أساسيًّا تطور للاعب الوحيد.
«أحيانًا, ثم نقلوها أينما ذهبوا من الرياضة إلى الأفلام الأمريكية التي انتشرت كهشيم النار في أفريقيا وأسيا وأمريكا اللاتينية». تاريخ النزعة الاستهلاكية، سليمان العسكري.
فقد افتتحت شركات هوليود فروعًا لها، ففي عام 1918 كان لاستوديوهات يونيفرسال عشرون منفذًا في أماكن مثل إندونيسيا واليابان والهند وسنغافورة، وبدا أنها نزعة ملونة توشك أن تجتاح العالم، والتي لقيت معارضة من المفكرين الأوروبيين، أمثال: الفرنسي (أميل زولا)، والألماني (توماس مان)، بل في الولايات المتحدة هناك ناقدون، فلقد كتب الاقتصادي الأمريكي (تورستين فيلبين) عما اعتبره ترفًا لدى أقطاب الأعمال من الطبقات العليا مبتكرًا مصطلحًا سماه: «الاستهلاك المنافي للذوق»، وقال (أوزوالد سبنجلد): «إن الحياة في أمريكا على وجه الحصر اقتصادية في تركيبها، وتفتقر إلى العمق».
ولقد قام البرلمان الفرنسي عام 1936 بحظر الأسواق ذات الطابع الأمريكي «لمدة سنة، وذلك على اعتبار أنها تستغفل زبائنها»، وتشكل اقتحاما أجنبيا لفضائل الأسلوب الفرنسي، ورغم كل ذلك فمطاعم الوجبات السريعة تجتاح مجتمعاتنا العربية، والأسلوب الأمريكي في الاستهلاك صار هو الأسلوب الغالب، والأفلام الغربية تغزو شاشاتنا وبيوتنا!! فكل ذلك يؤكد أن الشطط في الاستهلاك يعني أننا نتقاعس في الإنتاج. المرجع السابق.
ونؤكد أن سنن الله -تعالى- لا تتبدل، فالترف نهايته الهلاك لا محالة، {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}[الإسراء:16].
فالمتوقع في المستقبل القريب: أن القراءة سينظر إليها على أنها مخلفات القرون البائدة، وسيكون عصر المعلومات عن طريق الكمبيوتر الناطق هو الأداة الرئيسة للمعرفة، وبدلاً من إرهاق العينين في متابعة النص المكتوب سواء على الشاشة أو في الكتاب سيقنع بالاستماع إليه منطوقًا، بل سيصبح من السهل تحويل كل اللغات المكتوبة إلى لغات منطوقة يمكن الاحتفاظ بها واسترجاعها والعودة إليها حينما نشاء دون مشقة الاحتفاظ بالكتب والمراجع والوثائق الضخمة، بل إنه في المستقبل سينتشر تحويل الكلام المنطوق إلى نصوص مكتوبة عن طريق الإملاء.. رحمك الله يا مولانا الشيخ محمد متولي الشعراوي الذي كان يملي خواطره حول القرآن ببراعة رائعة.
وكما يقول (أمبرتوعاكو): إنه لو أفلح الحاسب في تخفيض الكتب المطبوعة تخفيضًا هائلاً، فسيكون هذا قفزة رائعة لصالح تكنولوجيا الحاسب ثقافيًّا واقتصاديًّا. «هل نقول وداعاً لثقافة القراءة». أحمد أبو زيد، العربي، نوفمبر 2007م.
فمن المتوقع في المستقبل القريب أن تكون صناعات الانتوميديا (الحواسب، والاتصالات، والإلكترونيات الاستهلاكية) هي المحرك الاقتصادي؛ لأنها أكبر الصناعات العالمية الآن، وأكثرها ديناميكية ونموًّا؛ إذ يبلغ رأس مالها أكثر من ثلاثة تريليونات دولار، وسيكون هو المحرك للتقدم وللتكتلات الاقتصادية التجارية العظمى -أسيا، وأوربا، وأمريكا الشمالية- في القرن الحالي.
بالإضافة إلى أنه سيكون عصر الوسائط المعلوماتية هو العصر الجديد، فهذه الشبكة الموجودة في كل مكان أصبحت كذلك طريق المعلومات فائق السرعة الذي يؤدي من الخدمات الجديدة أمثال:
1) الدفع لقاء المشاهدة. pay per veiw
2) الدفع لقاء اللعب. pay per game
3) التسويق وإنهاء الأعمال وأنت في منزلك.
4) إمكان التعلم عن بعد والتشغيل عن بعد. «فرانك كليش» بترجمة حسام زكريا، الكويت.
فاليابان قادت الفريق بتمويل يتعدى الـ450 مليون دولار لإنشاء شبكة الألياف الضوئية بحلول عام 2015، أما الولايات المتحدة؛ فأكثر من 200 مليون دولار، وقدرت السوق الأوروبية بحوالي 200مليون دولار، والتزمت المملكة المتحدة مدنيًّا بـ 45 مليون دولار، فالرهان العالمي على الجوائز التي سيحصرها المغامرون يتضخم هو الآخر ويصبح هائلًا. المرجع السابق.
فناقلات الاتصالات في أزمة فجرتها ضرورة التغير، واحتكاراتها التقليدية في انكماش مستمر لتلقي بها في بحر المنافسة متلاطم الأمواج؛ فهي تواجه تحديًا كي تتخطى خدمات الصوت التقليدية، وتغوص لأعماق بحر زاخر من خدمات الوسائط الإعلامية التفاعلية الجديد؛ إذ سيكون في مقدورنا امتلاك أجهزة متفاعلة ثنائية الاتجاه، وبدلًا من المشاهدة والاستماع في سلبية لما يجرى أمامنا سيكون في متناولنا مجموعة ضخمة من الأفلام السينمائية الإلكترونية والعروض التليفزيونية وكتب ومجلات وموسوعات وموسيقى ومعلومات أكثر بكثير.
يقصد بالسوق: «العملية التي تنظم البيع والشراء عن طريق السعر النقدي الذي يحكم تبادل كل عناصر الإنتاج، ومكوناته: السلع المنتجة، والعمل، والمواد، والطبيعة، والخدمات بأنواعها»، وهذا هو نظام التبادل الذي يعرفه الاقتصاد الحديث.
هذا هو المنظور الاقتصادي البحت للسوق، والذي يغفل المضمون الاجتماعي والثقافي, ولا يساعد على الكشف عما تؤديه من دور في مجال الاتصال والإعلام، ففي الأسواق العربية التقليدية مثلًا باعتبارها أنساقًا اجتماعية اقتصادية تحمل بعض خصائص السوق الحديثة، الربح أو المنفعة الاقتصادية هي الحافز للتبادل، وهي -أيضًا- نسق ثقافي؛ إذ الثقافات مختلفة، وهي تطبع السوق بطابع مميز، أو بذاتية ثقافية تشكلها الظروف الإيكولوجية، والتكنولوجية، والاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية، والسياسية، والدينية السائدة في المجتمع، ومن أمثلته قديمًا وحديثًا:
سوق عكاظ: ملتقى الطرق إلى اليمن والعراق ومكة، ويُقام في الفترة من الخامس عشر إلى الثلاثين من ذي القعدة، وهو خير مثال على الأسواق التقليدية؛ حيث إنها وسيلة اتصال وإعلام، بل إنه يشتهر بكونه نسق اتصال، وتعني كلمة (عكاظ) كل ما كان يدور في السوق (عكاظ) من مفاخرة وتجادل ومباهاة ومصالحة ودعاية بما يؤكد أن العرب أكدوا جوانب الاتصال والإعلام المتاحة أثناء التبادل التجاري.
فقد كان مركزًا اجتماعيًّا وجريدة رسمية، تجري فيه المجادلات والمناظرات، وكان معرضًا للإنتاج، فكانت تأتي البعثات من القساوسة من نجران والبصرة لكي يعظوا الناس، فيتذاكرون البعث والحساب والجنة والنار.
«ويذكر الألوسي أن القس بن ساعدة الإيادي راهب نجران كان يخطب الناس ويحضهم على التأمل في الأمور الكونية، وفي الموت وما بعده، داعيًا إلى عقيدته النصرانية». الإعلام في صدر الإسلام، عبد اللطيف حمزة.
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحضر سوق عكاظ، ويعجب قبل بعثته مما يقوله القس بن ساعدة، ثم بعد مبعثه -صلى الله عليه وسلم- كان يقصدها أول دعوته، ويعرض نفسه على القبائل ويحدثهم ويجادلهم وينبئهم: أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدقوه. أسواق العرب في الجاهلية والإسلام، سعيد الأفغاني.
وهكذا كانت عكاظ معرضًا عامًّا للجزيرة العربية، فيها عرض لتجارب جميع الأمصار والأقطار من فرس وأحباش وبيزنطيين وعرب، وعرض للبيوع، وعرض للعادات والأديان واللغات والآداب والسياسة، وفيها لجان رسمية تحكم للمتفوق بتفوقه حكمًا نافذًا من أقصى الجزيرة لأقصاها، وتزيد على معارضنا الحديثة بميزة هامة، وهي صهرها لعادات القبائل ولغاتها ومواصفاتها لتنتقي منها أحسنها وأخلقها بالبقاء، وأيضًا بها الترفيه واللهو. دور الحجاز في الحياة السياسية العامة في القرنين الأول والثاني الهجري، أحمد إبراهيم الشريف.
ففي عصر ما قبل الاتصال الجماهيري كان الإعلان أحد الأنشطة المعتادة في جنبات العالم القديم عن طريق المنادين الجوابين للقرى القديمة، تمتدح ما لديهم أو لدى الذين يكلفونهم بذلك من بضائع.
مثل: ألواح الصلصال الموجودة من أكثر من أربعة آلاف عام على شكل إعلان عن السلع, وهو يعد قديمًا قدم المجتمعات الإنسانية.
صنع الإنجليزي (دجون مايسوم) عام 1825 آلة تعذيب وحشية خشبية ذات ثقوب لاستخدامها في تقييد أقدام المذنبين وأيديهم، وجوزي على ذلك جزاء سنمار؛ حيث كان أول من عُذب على آليته عقابًا له لمطالبته بأسلوب عنيف غير لائق على أجرة عن ابتكاره لهذه الآلة.
كان الروائي الأمريكي (أرنست همنجواي) (1899 - 1961) يتقاضى قرابة ثلاثين ألف دولار ثمنًا لمقالة لا تتجاوز 2000 كلمة، أي بواقع 15 دولار عن كل كلمة، فكان موضع حسد زملائه وانتقادهم.
أما السيدة (ديبورا سينايدر) من مدينة مينابوليس الأمريكية، فقد تقاضت 175 ألف دولار مقابل حوار إعلاني مكون من 25 كلمة قامت بتأليفه وإعداده عن نوع من السيارات، أي بواقع سبعة آلاف دولار عن الكلمة الواحدة. مجلة الفصيل، العدد 208، إبريل 1994م.
واليوم أصبح الإعلان صناعة ضخمة تستهلك حوالي 2% من إجمالي الدخل لأكبر دولة في العالم، ففي عام 1990 بلغ إجمالي الإنفاق الإعلاني في الولايات المتحدة 140 بليون دولار، وفي عام 2000 وصل لحوالي 420 بليون دولار، وهكذا تحولت صناعة الإعلان من نظام المنادين الجوالين في إطار محلي ضيق إلى صناعة ضخمة شديدة التعقيد والتنظيم تقف بتأثيراتها الاجتماعية إلى جوار المؤسسات الكبرى في العالم الغربي.
إن صناعة الإعلام اليوم تستهلك ما يوازي الدخل الوطني لمائة وعشرين دولة من دول العالم الحديث، وهي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالأبعاد السياسية والاقتصادية والعسكرية للإمبراطورية الأمريكية الحديثة. الإعلان: مهمة الإقناعة الصعبة، حمدي حسن.
يرى النقاد أن الإعلان يعمل بالطريقة نفسها التي تعمل بها الأسطورة في المجتمعات البدائية؛ حيث يقدم للناس قصصًا وشروحًا يتم من خلالها نقل قيم ومثاليات يستخدمها الناس في تنظيم أفكارهم وخبراتهم وفهم العالم المحيط بهم.
ففي كتاب «الأسطورة الخفية» ترى (فاردا لوتجهولز) أن الإعلان مثل الأسطورة يدعم صيغًا مقبولة من السلوكيات والأفعال، وهو بمنزلة أداة للإقلال من التوتر وحل التناقضات في المجتمع، والإعلان يقدم حلولًا للمآزق المستمرة في حياة الإنسان؛ فهو يثير القلق ويخفف منه في الوقت نفسه، وعند البعض: أن الإعلان اليوم يقوم بدور الكاهن القديم الذي تمكنه شخصيته المجهولة -كما يزعمون- من تقديم سحر جديد غريب لعلاج الآلام المألوفة في مجتمع معين، وللإقلال من الطموح والمرارة والفشل والجشع والشهوة والوحدة وإثارتها جميعًا.
إن الإعلان يضع مؤيديه ومعارضيه في الثقافة الغربية في موقف شديد التناقض، فلا يستطيع مؤيدوه إنكار تأثيراته المدمرة للثقافة الغربية، وليس لدى معارضيه بديل عنه يصلح حتى يتمكن النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في الغرب من أداء مهماته بنجاح، وحتى تصل الثقافة الغربية إلى حل لهذا التناقض القائم، فسوف يظل الإعلان خصوصًا في وسائل الاتصال الجماهيرية رافدًا رئيسًا لتشكيل الثقافة الغربية واستمرارها؛ فهو يؤدي فوائد جمة للنشاط الاقتصادي، ويشكل مصدرًا رئيسًا للمعلومات في الثقافة الغربية، وفي الغرب كتابات -كما أشرنا سلفًا- تحذر الآخرين من أن الإعلان شكل من أشكال الاتصال الاجتماعي، وليس مجرد إبلاغ الآخرين بوجود السلع.