للإجابة عن مثل هذا التساؤل نحتاج أن نعرف مداخل التأثير وعلاقتها بتسويق الأفكار؛ إذ إن هذه المداخل والأطر النظرية هي التي يقوم عليها التأثير، وبالتالي تسويق هذه الفكرة، ولا شك أن دراسة هذه المداخل وتأملها تفيدنا في أمرين:
الأول: معرفة حجم تأثير وسائل الإعلام في صناعة العقول والتلاعب بها، والكيفية التي تتم به.
والثاني: في معرفة الطرق والمداخل التأثيرية التي يمكن استخدامها لتسويق الأفكار.
وفيما يلي نعرض للفكرة الأساسية التي يقوم عليها عدد من أهم مداخل التأثير الإعلامي بهدف محاولة التعرف على الكيفية التي يؤثر من خلاها الإعلام بوسائله المختلفة:
ويقوم هذا المدخل على فرضية رئيسة تعبر عن الاعتقاد في القوة الطاغية لوسائل الإعلام، حيث ظل باحثو علوم الاتصال لمدة تزيد عن العقود الثلاثة يتبنون وجهة النظر القائلة: إن لوسائل الإعلام تأثيرًا كبيرًا على الآراء والسلوك والاتجاهات، وهذه النظرة تفترض أن جماهير وسائل الإعلام هدفٌ سلبيٌّ غير قادر على الدفاع عن نفسه أمام هذه القوة التأثيرية لوسائل الإعلام، كما أنه -أي الجمهور- مهيأ باستمرار لاستقبال الرسائل الإعلامية، وعُرف هذا الفهم لأثر وسائل الإعلام بنموذج الرصـاصة -أو نمـوذج الحقنة تحت الجـلد-.
ولاحظ علماء النفس والاجتماع أن هذه النظرة لوسائل الإعلام لا تفسر لماذا يستجيب الناس بكيفية معينة لمضمون وسائل الإعلام، ولذلك تم استخدام العديد من المداخل في محاولة لفهم رد فعل الجمهور حيال مضامين وسائل الإعلام، ومن بينها مدخل الاستخدامات والإشباعات. الاتصال ونظرياته المعاصرة، حسن عماد مكاوي وليلى حسين السيد.
يعد مدخل ترتيب أولويات الاهتمام واحدًا من الأطر النظرية التي تبحث في تأثير وسائل الإعلام؛ حيث تهتم بحوث «ترتيب الأولويات» بدراسة العلاقة التبادلية بين وسائل الإعلام والجماهير التي تتعرض لتلك الوسائل لتحديد أولويات القضايا السياسية والاجتماعية التي تهم المجتمع.
إن تركيز وسائل الإعلام على موضوعات وقضايا بعينها يترتب عليه إدراك الجمهور لهذه القضايا بوصفها قضايا مهمة.
ويفترض هذا المدخل أن وسائل الإعلام لا تستطيع أن تقدم جميع الموضوعات والقضايا التي تقع في المجتمع، وإنما يختار القائمون على هذه الوسائل بعض الموضوعات التي يتم التركيز عليها بشدة، والتحكم في طبيعتها ومحتواها، هذه الموضوعات تثير اهتمامات الناس تدريجيًّا، وتجعلهم يدركونها، ويفكرون فيها، ويقلقون بشأنها، وبالتالي تمثل هذه الموضوعات لدى الجماهير أهمية أكبر نسبيًّا من الموضوعات التي لا تطرحها وسائل الإعلام. المرجع السابق.
ومدخل (ترتيب الأجندة) يفترض أن الجمهور يتعرض في وقت واحد لوسائل الإعلام، وبالتالي: فإن القضايا التي تطرحها وسائل الإعلام تصبح قضايا مهمة بالنسبة له، على الرغم من أن الجمهور مختلف حول هذه القضايا (Agenda Setting Theory, COMMUNICATION CAPSTONE)، وبناء على ملاحظة الباحثين لهذا الترتيب طُرح العديد من الأسئلة حول الاتفاق أو الاختلاف بين الاثنين، وما إذا كان ترتيب وسائل الإعلام سببًا في ترتيب أولويات الجمهور أم لا ؟
وهل وجود العلاقة السببية بين وسائل الإعلام والجمهور صورة من صور تأثيرات وسائل الإعلام، ودورها في تشكيل الحقائق الاجتماعية للجمهور؟
هذه الأسئلة وغيرها كانت محور للعديد من الفروض العلمية التي صاغت نتائج اختباراتها وتجاربها المدخل الخاص بتأثير وسائل الإعلام المختلفة في ترتيب أولويات الجمهور، أو أولويات الاهتمام بالمواد والرسائل الإعلامية التي تنشرها أو تبثها هذه الوسائل المختلفة، والتي عرفت في أدبيات الدراسات الإعلامية بفروض (ترتيب الأجندة). نظرية الإعلام واتجاهات التأثير، محمد عبد الحميد.
يعد مدخل دوامة الصمت أحد نماذج التأثيرات طويلة المدى على كل من المجتمع وثقافة أفراده، ويصنفها بعض الباحثين في إطار واحد مع مدخل وضع الأولويات (مدخل وضع الأجندة) نظرًا لاهتمامه بالتأثير الجمعي لوسائل الإعلام، وكيفية تشكيل رأي عام تجاه بعض القضايا، ولكن بطريقة عكسية على اعتبار أن وسائل الإعلام تعمل على تحريك الوعي نحو مختلف القضايا، وهي مع ذلك -وفي نفس الوقت- تضغط على الأفراد لإخفاء آرائهم، والتي قد تختلف عن رأي الأغلبية؛ خوفًا على أنفسهم من الانعزال عن المجتمع لذا يلتزمون الصمت. (الاتجاهات العالمية الحديثة لنظريات التأثير في الراديو والتليفزيون)
والفكرة العامة لهذا المدخل، هي: أن الفرد يعيش في مجتمع، ويتفاعل مع بيئة الرأي العام فيه -مقوماته وعوامل تشكيله-، لذلك فالفرد يميل إلى تشكيل رأيه طبقًا للرأي العام السائد في المجتمع الذي يعيش فيه.
أتت فكرة هذا المدخل من عمل الحارس الذي يقف على البوابة؛ فيدخل من يشاء، ويرد من يشاء؛ فوسائل الإعلام تقوم بدور حارس البوابة -بوابة الجماهير- حيث إنها تعرض ما تشاء، وتمنع ما تشاء، وهذه الحراسة مؤثرة على الجمهور المتلقي من ناحيتين :
الأولى: تحديد ما يعرض.
والثانية: تحديد ما يُمنع من العرض.
ولئن كان ما يعرض مهم فما لا يعرض أكثر أهمية؛ لأن تأثير ما لم ولن يعرض أكثر أهمية وأعمق تأثيرًا مما عرض.
ولذا تحاول الدول والمنظمات الإعلامية الحرة التخلص من أي نوع من أنواع الحراسة عليها، وتحرص الإمبراطوريات الاستعمارية على أن تقوم بدور حارس البوابة، ليس على الجمهور فحسب، بل حتى على وسائل الاتصال الجماهيري.
يقوم المدخل على أن تدفق المعلومات من وسائل الاتصال الجماهيري للجمهور يتم على مرحلتين:
الأولى: من هذه الوسائل لقادة الرأي.
والثانية: من قادة الرأي إلى الجمهور.
فبعد أن يشاهد الجمهور الفلم أو البرنامج، أو يقرؤوا المقال يبدؤون في الحديث عنه، وهنا تبدأ المرحلة الثانية التي يقوم فيها قادة الرأي بتحليل المعلومات، سواءً إنكارًا أو تأييدًا، فربما اعتبر قائد الرأي أن الفكرة التي يقوم عليها الفلم تقود للحرية والسعادة، بينما يعتبر قائد آخر ذلك انحلالًا وبهيمية، وعند ذلك ينتقل للجمهور عقب هذا التحليل الذي ليس بالضرورة أن يأخذ شكل التحليل، بل قد يكون مزاحًا، أو طرفة، أو غير ذلك.
وقد انتقد المدخل انتقادات قوية، إذ ليس كل ما يبث يناقش أو يعلق عليه من قبل قادة الرأي، وليس كل الجمهور تابعين لقادة رأي، كما أنه يمكن لوسائل الاتصال الجماهيري أن تقدم من أقوال قادة الرأي ما تريد هي.
ومن هذا المدخل يمكن الخروج بعدة ملاحظات :
1- ليس تأثير وسائل الإعلام حتميًّا مباشرًا كما يقول مدخل الرصاصة السحرية (الحقنة تحت الجلد).
2- أهمية قادة الرأي في تحقيق تأثير وسائل الإعلام على الجمهور.
3- أهمية العلاقات العامة والبث الأوَّلي للفكرة، قبل الاتصال الجماهيري.
4- تصل فكرة وسائل الإعلام إلى أناس لم يتعرضوا لها، عبر قادة الرأي في كل مجموعة.
تعد دراسة عملية انتشار المبتكرات (المستحدثات) دراسة لشكل خاص من أشكال الاتصال والمعدلات الكبيرة التي تنشأ وتتطور بها المبتكرات (المستحدثات)، ولقد اهتم بها الباحثون في شتى المجالات؛ كالتربية (من خلال محاولة نشر طرق التدريس الجديدة)، وكذلك في مجال الزراعة (من خلال نشر الأساليب الزراعية الجديدة) وغيرها من المجالات على اختلافها وتنوعها، الأمر الذي جعل العلماء يهتمون بشكل كبير بدراسة هذه الظاهرة -انتشار المبتكرات-، ويحاولون التعرف على أثرها في النظام الاجتماعي القائم. الاتصال بالجماهير بين الإعلام والتطويع والتنمية، أحمد بدر.
والملاحـظ لمدخل انتشار المبتكرات يجد أنه يقترب كثيرًا من مدخل تدفق الاتصال على مرحلتين، والذي يفترض أن الرسالة الإعلامية تصل إلى الجماهير عن طريق أفراد يتميزون عن سواهم بأنهم أكثر اتصالًا ونشاطًا في تعاملهم مع وسائل الاتصال الجماهيرية (Election Campaign , On Lin)، فهم يقومون بدور حارس البوابة؛ حيث يقومون بعملية نقل مضامين الرسائل الإعلامية إلى غيرهم من الجماهير، ومن هنا يطلق عليها اسم قادة الرأي.
فمفهوم قادة الرأي في مدخل انتشار المبتكرات لا يختلف كثيرًا عن مدخل انتقال المعلومات على مرحلتين، غير أنه يضيف تفصيلات أكثر حول شخصية قائد الرأي.
ويعرض (روجرز) -وهو أحد مؤسسي المدخل- تصورًا لدور قادة الرأي، كالتالي:
1- يتعرض قادة الرأي لوسائل الاتصال أكثر من غيرهم.
2- هم أكثر ابتكارًا وإبداعًا وقدرةً على حل المشكلات وتقبل الجديد.
3- أكثر اتصالًا بغيرهم، ويحتلون مراكز اجتماعية متميزة أكثر من غيرهم.
4- هم أكثر انفتاحًا على العالم، وأكثر ميلًا للمشاركة من غيرهم. الاتصال ونظرياته المعاصرة، حسن عماد مكاوي، وليلى حسين السيد.
يركز هذا المدخل على وسيلة التلفزيون بصفة خاصة، وعلى تأثيره على المدى الطويل، ويتخطى تأثيره الفردي للتأثير الثقافي المتماسك الذي يعبر عن الاتجاه السائد في المجتمع، ويقول المدخل: أن التعلم العرضي ينتج عنه تأثير تراكمي للتلفزيون؛ حيث يتعرف المشاهد على حقائق الواقع الاجتماعي الذي يصنعه التلفزيون، وتكون هذه الحقائق بصفة تدريجية أساسًا للصورة الذهنية والقيم التي يكتسبها المشاهد عن العالم الحقيقي، فكثرة التعرض للتلفزيون تشكل الصورة الذهنية للواقع، وسهولة استرجاع هذه الصورة الذهنية من الذاكرة تكون الأساس الذي على ضوءه يتخذ أحكامه عن الواقع، وربما كان هذا الغرس الثقافي بسبب التراكم كما ينص المدخل، أو بسبب التسلل إلى العقل اللاواعي، فمع انشغال وعي الإنسان بالأحداث الجارية تتسلل هذه القضايا إلى لا وعيه، وتصوغ مشاعره ومواقفه تجاه القضايا، وبالتالي يفسر القضايا بما يضنه رأيه وخبراته الشخصية، وهي الصورة الذهنية التي رسمت له في عقله.
يفترض المدخل أن الأحداث لا تنطوي في حد ذاتها على مغزى معين، وإنما تكتسب مغزاها ومعناها من خلال الإطار الذي توضع فيه، فالإطار الإعلامي هو تلك الفكرة المحورية التي تنتظم حولها الأحداث الخاصة بقضية معينة، وهذا يعني: انتقاء متعمد لبعض جوانب الحدث أو القضية، وجعلها أكثر بروزًا في النص الإعلامي، واستخدام أسلوب محدد في توصيف القضية وتحديد أسبابها، ووضع أحكام أخلاقية تحكمها، واقتراح سبل العلاج أو التطوير، وما يستخلصه الجمهور، وما يعتقده كل ذلك يتأثر تأثرًا كبيرًا بالإطار الذي توضع فيه.
اشتق اسم المدخل من التلقيح ضد الأمراض؛ فاللقاح الذي فيه الجرثومة الضعيفة حصن الجسم ضد الجرثومة، وقد استخدم ذلك في وسائل الإعلام بتكرار رؤية الجمهور لرسالة تؤدي إلى تبلد حسها ضدها في الواقع، أو بتعبير آخر (كثرة الإمساس تبلد الإحساس)، وكثرة رؤية المنكرات والمشاهد المنحرفة تبلد الأحاسيس وتولد اللامبالاة؛ حتى يصبح المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا.
وهو مدخل يدرس تعامل الفرد مع المعلومات وما يتم في عقله، ولا يهتم بالمعلومات نفسها إلا بالقدر الذي يسمح لها بشرح هذه الكيفية وتفسيرها، ووفقًا لمدخل المعالجة المعلوماتية يوجد نوعان من الذاكرة:
- ذاكرة قصيرة المدى، يتم فيها تخزين المعلومات بشكل مؤقت.
- وذاكرة طويلة المدى ويتم فيها تخزين المعلومات لفترة طويلة، وبشكل منظم، ومن شبكة معقدة من المفاهيم والكلمات والحقائق.
ويقوم المدخل على أن الأشخاص لديهم وجهات نظر منمطة مترسبة حول بعض الأفكار، أو الأشخاص، أو الأحداث التي حوله أو يراها، هذه الصورة الذهنية المترسبة في العقل والذهن تساعد على تفسير ما يدور في محيط الشخص وبيئته، وبالتالي فالأفكار المترسبة في الذاكرة تؤثر على الشخص، بحيث يتجاهل الأفكار التي تتعارض معه، ويركز على الأفكار التي تعزز أفكاره، ومن هنا يجب ملاحظة ما يلي:
- أن كسب الوسيلة الإعلامية للمصداقية يمرر أفكارها، بينما الوسيلة ذات الانطباعات السيئة عند الجمهور فإنهم يرفضون المضامين والأفكار التي تقدمها.
- يمكن تغيير الأفكار المترسبة عن وسيلة إعلامية في حالة تدفق المعلومات وتركيزها وطريقة عرضها للأفكار والأحداث، وإن كانت العملية صعبة، وتواجه بمقاومة من الأشخاص.
- صياغة تصور عن الوسيلة الإعلامية أسهل من تغيير تصور ترسَّب عن الوسيلة.